البلدان العربية.. مصادر الشرعية والعملية السياسية

كتاب يؤطر نظريا لأشكال وأنماط الحكم يبحث في قضايا مركبة وخلافية لكن بشكل مبتسر

TT

يحاول هذا الكتاب، بحذر واضح، أن يؤطر نظرياً لأشكال وأنماط الحكم في الدول العربية ويحوم حول القضايا الحساسة المتعلقة بالتغيير، مع ميل بارز الى التعميم وعدم ضرب الأمثلة أو الاقتراب من حالات محددة ليتعمق فيها. ورغم حساسية الموضوع فان المؤلفين يصران على اعتماد منهج تحليل وصفي موضوعي مدرسي لا يتبنى منظوراً نقدياً وبالتالي لا ينتهي الى خلاصات نقدية او معيارية، خاصة أن الكتاب قد يعتبر من القراءات العربية الأبرز لهذه الموضوعة خلال الفترة القصيرة التي أعقبت غياب عدد من القادة التاريخيين وخلافتهم من قبل أبنائهم، سواء في الدول الملكية او الجمهورية أو الأميرية، الأمر الذي أعاد طرح موضوعة شكل وطبيعة التغيير في الأنظمة السياسية العربية ونمط التعاقب على الحكم بقوة على جدول النقاش السياسي في المنطقة. والشيء الأكيد بالطبع هو حق المؤلفين في اعتماد أي نهج تحليلي يرتئيان تبنيه شريطة تبرير الاختيار، وفي حالة الكتاب الذي بين يدينا فان التبرير الوحيد الذي يمكن توقعه، وان يكن خلافياً لناحية قبوله أو رفضه، هو أنه مصوغ ليدخل قائمة الكتب الجامعية التي يعتمد عليها طلبة العلوم السياسية، ولو أشار المؤلفان الى هذا بشكل مباشر او غير مباشر لأمكن فهم هذا الاختيار. فالمشكلة التي تكمن في منهج التحليل غير النقدي عند معاينة قضايا مركبة وخلافية وسجلها التاريخي مختلط بالنجاح والفشل هو أن معايير الانجاز والاخفاق تظل مبهمة، ولا يتم الدفع الى الأمام باتجاه الاستفادة من درس التاريخ، الامر الجوهري الذي هو مناط أي دراسة نقدية. وكتطبيق مباشر على هذا نرى مثلاً أن المؤلفين عندما يتناولان «معيار مصدر الشرعية» في البلدان العربية (72 ـ 73) لا يتجاوز الوصف الموضوعي لهذا المعيار الخطير والمركزي في الحياة السياسية في العالم العربي اليوم الصفحتين. ويوردان ثلاثة مصادر لهذه الشرعية هي: المصدر التقليدي، أي «مجموعة التقاليد الدينية والاعراف القبلية والعشائرية التي تعتمد القيادة السياسية على تحقيق رضى المحكومين من خلال احترامها لها ايماناً بتجذر دور الدين والتقاليد في الوعي العربي»، والثاني هو المصدر الشخصي، أي «الشخصية التاريخية أو الكاريزمية»، والثالث هو المصدر العقلاني ـ القانوني، أي «مجموعة المؤسسات والقواعد الاجرائية التي تتصل بتنظيم الخلافة السياسية وتضبط سير العملية السياسية». (ص 72 ـ 73). وفضلاً عن اغفال الحديث عن «الشرعية الثورية» أو التعرض لها سريعاً في سياق الحديث عن الشرعية الشخصية بطريقة غير مقبولة، ذاك أن النظم القائمة على نظام الفرد الواحد لا ترجع شرعيتها الى هذا الفرد بل الى شرعية الثورة أو الحركة التصحيحية أو سوى ذلك، فان ما هو أهم من ذلك هو أن هذه «الشرعيات» جميعاً لا تخضع للتحليل النقدي أو المقارني مع «الشرعيات» المعاصرة في عالم اليوم. وليس هناك موضعة للاسس التي تقوم عليها الشرعيات العربية في اطار معياري يقيسها على أقل تقدير بمؤشرات الشرعية الانتخابية والاختيار الحر للشعوب. ويشعر القارئ بانقطاع الصلة بين الأنظمة العربية والشعوب التي تحكمها، وبأن هذا الانقطاع لا يحفز المؤلفين للتوقف عنده في معظم فصول الكتاب، وبشكل خاص طبعاً في الجزء المتعلق بالشرعية. تتوسع الدراسة في تبني رؤية جنوبية (شمال وجنوب) لتتحدث عن مجموعة سمات تتصف بها البلدان العربية، وتشترك فيها مع بقية بلدان الجنوب أو العالم الثالث، وهي الخبرة الاستعمارية، والتبعية، ومحدودية الموارد، والمعاناة من مشكلات المرحلة الانتقالية وأزماتها. لكن يغيب عن قائمة السمات سمة هشاشة الدولة نفسها وأثر هذه الهشاشة، كما أن الحديث عن «محدودية الموارد» حديث خلافي، ذلك لأن وفره هذه الموارد في الوطن العربي بل في دول الجنوب بعامة كانت هي السبب الذي أثار الاطماع الاستعمارية. والمشكلة ليست في الموارد بل في حسن استثمارها وادارتها وتعظيم الاستفادة منها. ثم ينتقل المؤلفان الى معالجة «بيئة النظم السياسية العربية» ليديرا سجالاً حول ثلاثة محاور أساسية: الاول السياق المجتمعي متضمناً الموقع الجغرافي والخبرة الاستعمارية والتكوين الاجتماعي، والموارد الاقتصادية، والثقافة السياسية، والثاني الاطار الدستوري والقانوني ويتضمن تاريخ اصدار الدساتير وطريقة اصدارها والخبرة الدستورية للدول العربية والسمات المشتركة بين الدساتير العربية، والمحور الثالث العملية السياسية ومن ضمنها الآيديولوجيات والنخب والاحزاب السياسية ومؤسسات المجتمع المدني. وعلى ما في هذه السرديات من تأطير مهم متعلق بجيوبوليتيك المنطقة، والعلاقات السياسية الاقليمية، والتكوين السكاني، والموارد الاقتصادية، وغير ذلك مما يؤثر في الأنظمة السياسية العربية، الا أن المحور الكبير الناقص هو العلاقات الدولية، أو البيئة الدولية التي تتحرك فيها الأنظمة وأثر تلك البيئة على شكلها، واستمرارها، أو تغيرها. فليست هناك قراءة معمقة ونقدية لانعكاس التحولات العالمية سواء في السياسة او الاقتصاد أو الاعلام على احتمالات التغيير أو الاستمرار في النمط السائد في الحكم العربي. اضافة الى ذلك فان ما هو ناقص حتى في النقاش حول المحاور الثلاثة الواردة كاطار للبيئة التي تحكم تحرك الأنظمة العربية هو ربط هذه البيئات بشكل مباشر في اشكاليات التغيير أو الاستمرار في طبيعة النظم السياسية وأنماط التعاقب على الحكم فيها. مثلاً، ليس هناك تحليل لحقيقة التوزيع الديموغرافي العربي وبروز شريحة الشباب كالشريحة الاكبر عدداً والتي تخضع لمؤثرات خارجية عولمية سياسية تدفع بها للتساؤل حول طبيعة أنظمة الحكم في بلدانها ومقارنتها بالديمقراطيات في العالم أو سائر أنماط الحكم. وبخلاف ما يعد به الكتاب في المقدمة من هدف «استشراف آفاق تطورها (الأنظمة) من حيث عناصر الاستمرار والتغيير» فان النقاش ظل محصوراً بما هو واقع الآن ومن دون الانخراط في تقدير توقعات أو استشرافات لما قد تؤول اليه أشكال تلك الانظمة. كما أن هناك ابتسارا في مناقشة قضايا مركبة مثل الديمقراطية في العالم العربي في اطار البحث الذي يتصدى له الكتاب. فمثلاً يطرح المؤلفان رأياً خلافياً يقول ان تهيئة المناخ الديمقراطي «تتطلب التحرر من القوالب والاشكال النموذجية لممارسة الديمقراطية. فعلى الرغم من أن هناك اتفاقاً على أهمية التعددية السياسية، الا أن هذا لا يعني ان تتخذ هذه التعددية بالضرورة شكل تعدد الاحزاب ومؤسسات المجتمع المدني بصورتها القائمة في الغرب. والمشكلة التي يطرحها نص كهذا متعددة الأوجه. فالى كونه يجزم ويحسم بشأن أطروحة قسم منها في غاية التعقيد وبطريقة سريعة ومقتضبة، فانه يخرج خروجاً غير مألوف عن التحليل الوصفي الذي ساد الكتاب بطريقة مملة، وينتقل فجأة الى التحليل النقدي المعياري، ويطرح فكرة تميل في جوهرها نحو تكريس ما هو قائم وتعضيد أطروحة الانظمة السياسية نفسها تجاه رفض الأشكال الديمقراطية والنزوع نحو أطروحة «خصوصية المجتمع العربي بشكل عام، وعدم ملائمة الديموقراطية له»، أي أن المؤلفيين عملياً انحازا «للاستمرار» على حساب «التغيير» بذريعة «المحافظة على الاستقرار». وهذه الذريعة، التي استخدمت في دولة ما بعد الاستقلال في العالم الثالث لفترة تجاوزت نصف قرن أثبتت هشاشتها، حيث وضح أن الاستقرار المزعوم لم يكن سوى شكل من أشكال الخوف من بطش السلطة، قاد الى انزال معضلات عدم الاستقرار، الفقر، عدم المساواة، الفساد، والاستئثار بالسلطة.. الخ الى تحت السطح وليس الى حلها. أي أن الاستقرار كان موهوماً أجل انفجار الأزمات الى أوقات لاحقة بدل مواجتها وكسب الوقت وحلها مبكراً تحت الشمس وبالحرية السياسية التي ستقود بالتأكيد الى مضاعفات سلبية هنا وهناك لكنها آلام الجراحة التي لا بد منها. النظم السياسية العربية: قضايا الاستمرار والتغيير المؤلفان: علي الدين هلال ونيفين مسعد الناشر: مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت

* خدمة «كامبردج بوك ريفيوز»