فلسطين وبلاد الشام في وثائق وزارة الخارجية الروسية

«روسيا في الأرض المقدسة» كتاب جديد يؤرخ لاهتمام موسكو بمنطقة الشرق الأوسط

TT

صدر حديثا في موسكو كتاب جديد يشمل مواد ووثائق من ارشيف السياسة الخارجية للامبراطورية الروسية في وزارة الخارجية لجمهورية روسيا الاتحادية، بالاضافة إلى وثائق الجمعية الارثوذكسية الفلسطينية ومعهد تاريخ روسيا التابع لاكاديمية العلوم الروسية.

والكتاب ثمرة جهد ضخم للعالم الروسي عضو الجمعية الارثوذكسية الفلسطينية نيقولاي ليسافوي، والذي كتب مقدمته بيتر ستيغني مدير قسم الوثائق التاريخية في وزارة الخارجية الروسية. وجاء في مجلدين كبيرين كل مجلد يحتوي على 800 صفحة من القطع الكبير يتضمن وثائق هامة جدا للتاريخ الفلسطيني ولتاريخ الوجود الروسي في سورية وفلسطين. ويأتي هذا العمل بعد جهد كبير بذله رئيس الجمعية السابق البروفسور بيرسيبكين الدبلوماسي المخضرم، اذ ان الوصول الى هذه الوثائق تعذر فترة طويلة من الزمن بسبب الظروف السياسية التي مرت بها روسيا ومنع الوصول الى وثائق ومواد الجمعية الارثوذكسية الفلسطينية التي تأسست في روسيا عام 1882 والتي وقف على رأسها وفي عضويتها الكثيرون من عائلة القياصرة الروس، نذكر منهم القيصر الكسندر الثالث الذي اسس الجمعية، والنبيل سيرجي الكسندروفيتش رئيس الجمعية الاول ما بين اعوام 1882 ـ 1905، والنبيلة يلزافيتا فيدوروفنا رئيسة الجمعية بين اعوام 1905 ـ 1917، والنبيل قسطنطين قسطنطينوفتش الذي قام برحلة الحجيج الى فلسطين برفقة النبلاء سيرجي وبافل الكسندروفيتش عام 1881.

تعود علاقة روسيا بالارض المقدسة الى الماضي البعيد، وتذكر المخطوطات والوثائق الواردة في الكتاب تفاصيل اول رحلة قام بها الاسقف دانييل ورجل الدين فالارم في القرن الحادي عشر الميلادي اثناء الحروب الصليبية، حيث مكث دانييل في القدس والناصرة عندما كان الملك بالدوين احد قادة الحملات الصليبية. ومنذ ذلك الوقت يؤرخ المؤرخون الحجيج الروسي الى فلسطين. ويعتبر حجيج فاسيلي بوسلايف، احد مشاهير واعمدة مدينة نوفوغراد عاصمة الارثوذكسية الروسية، من اهم المعالم في تاريخ الحجيج الروسي. ومن بين المشاهير من التجار الروس الذين تركوا مذكراتهم يذكر التاريخ التاجر فاسيلي بوزنياكوف وكريفونا كارابنيكوفا، ومن بين المشاهير الروس ايضا ارسيني سوخانوف الذي قام بالحجيج الى القدس خلال الفترة 1651 ـ 1653.

وبعد توقيع اتفاقية كونريج كانراجي عام 1774 بين روسيا والامبراطورية العثمانية، والتي تضمن البند السابع منها نصا حول حماية الحجاج الروس ورعايتهم في فلسطين، تمكنت روسيا حسب هذه الاتفاقية من تعيين قناصلها في الشرق وفلسطين وجميع المناطق التي كانت تحت سيطرة الدولة العثمانية. وكان قسطنطين بازيلي، احد القناصل الروس البارزين لدى الامبراطورية العثمانية والذي تمتع بثقافة تاريخية وأدبية عالية، ممن عالجوا الوجود الروسي في فلسطين من خلال اهتمامه بتاريخ سورية وفلسطين والذي تجلى في كتابه «سورية وفلسطين تحت الحكم العثماني». هذا الكتاب الهام الذي ترجم للعديد من اللغات من بينها العربية، حيث يصور المنطقة (الشام) منذ ان وصل بيروت في تاريخ 20/11/1339 ومكث بها حتى عام 1853، أي بداية حرب القرم. وفي هذه الفترة زار فلسطين العديد من الكتاب الروس من بينهم أ. ن. مورافيوف، والارشمندريت باريفيري اوسينسكي والكاتب نيقولاي غوغول، والشاعر جوكوفسكي الذي نشط بشكل خاص وبمثابرة على فتح البعثة الدينية الروسية في القدس، والشاعر جوكوفسكي، والمؤرخ كونداكوف وغيرهم كثيرون.

ويعتبر تأسيس الجمعية الامبراطورية الارثوذكسية الفلسطينية محطة هامة في التاريخ الروسي ـ الفلسطيني، حيث بدأت مع تأسيس هذه الجمعية مرحلة هامة في تاريخ علاقة روسيا بفلسطين والارض المقدسة. والكتاب الصادر حديثا عن وزارة الخارجية من المصادر الهامة للباحثين والدارسين، لما يتضمنه من وثائق منذ فتح القنصلية الروسية الاولى في بيروت وكذلك الكثير من المواد حول النشاط التعليمي لروسيا في فلسطين وسورية، كما يتضمن الكتاب وثائق هامة حول تأسيس اللجنة الفلسطينية التابعة لقسم آسيا في وزارة الخارجية الروسية، التي نشطت في مجال البناء والتعمير في فلسطين. ويتضمن الكتاب المواد والمراسلات بين وزير الخارجية الروسي نيسلرودي مع البعثة الروسية في القسطنطينية.

وتعتبر محتويات صندوق الوثائق التابع للجمعية الامبراطورية الارثوذوكسية الفلسطينية من اهم الوثائق التي يتضمنها الكتاب. فواضع الكتاب الدكتور ليسافوي نيقولاي يستعرض جميع الوثائق تحت رقم (ف 337 ـ 765 ـ 2 و873 ـ 1 ـ 13) من ارشيف وزارة الخارجية الروسية، حيث يتضمن هذا القسم اهم المعلومات حول النشاط الروسي في فلسطين منذ عام (1882 ـ 1918). ومن اهم هذه الوثائق تلك التي تتحدث عن شراء الاراضي وملكيتها على يد الجمعيات والهيئات والشخصيات الروسية وبناء الابنية الروسية في فلسطين. وكذلك البيانات والتقارير والرسائل والخطابات التي كان يلقيها رئيس الجمعية النبيل سيرجي الكسندروفتش.

في الفصل الاول من المجلد الاول يستعرض الكتاب اهم النشاطات الدبلوماسية الروسية في منطقة الشرق الاوسط، خاصة الاوامر الصادرة عن القياصرة الروس كاترينا الثانية ونيقولاي الاول والمتعلقة بترتيب العمل الدبلوماسي في وزارة الخارجية الروسية في بيروت والشام، ونطلع فيه على الامر العالي الصادر من نيقولاي الاول الى وزير خارجيته نيسلرودي حول فتح القنصلية الروسية في بيروت. وتحت عنوان «من تاريخ النشاط الدبلوماسي للممثليات الروسية في الشرق الاوسط» يتعرف القارئ على أهم الوثائق والمواد المتعلقة بفتح القنصليتين الروسيتين في بيروت ويافا عام .1839 ثم تقرير وزير الخارجية الروسي النبيل أ. م. غارتشاكوف حول تعيين دارغوبوجيفا قنصلا عاما لروسيا في القدس عام .1856 ويستعرض محقق الكتاب في الفصول الاثني عشر من المجلد الاول اهم الوثائق والمواد في ارشيف وزارة الخارجية الروسية المتعلقة بالحجيج الروسي الى فلسطين، وأهم الرسائل من عائلة القيصر والنبلاء ورجال البلاط الذين زاروا الشرق من بينها رسالة النبيل قسطنطين نينولايفيتش الى القيصر الكسندر الثاني من مدينة بيروت في 13 مايو (ايار) .1859 ومقتطفات من مذكرات الارشمندريت انطونين كابوشين الذي كان له دور كبير في تاريخ الوجود الروسي في فلسطين، حيث يتضمن الكتاب بعض المعلومات الواردة في مذكرات الارشمندريت كابوشين حول زيارة النبلاء بافل وسيرجي قسطنطينوفتش والنبيلة يلزافيتا فيودرفنا الى الشرق والقدس.

كذلك رسائل مدير المدارس الروسية في بيروت م. أ. تشيركاسوفا الى ادارة الجمعية الامبراطورية الارثوذوكسية. ورسائل مدير السمينار الروسي في الناصرة أ. غ. كوزما الى مجلس الجمعية الامبراطورية الارثوذوكسية الفلسطينية.

ومن بين المعلومات الهامة للغاية التي يتضمنها الكتاب الفصل المتعلق بتاريخ علاقة البطريركية الأرثوذكسية الروسية مع القدس. واللجنة الفلسطينية التي نشطت بين اعوام 1859 ـ 1889، خاصة رسائل احد اهم الشخصيات الدبلوماسية في الشؤون الشرقية في اللجنة الفلسطينية ب. مانصوروف والمتعلقة بالشؤون السياسية الروسية في لبنان وسورية وفلسطين. إضافة إلى المعلومات حول الأبنية الروسية والاملاك الروسية في سورية ولبنان وفلسطين قبل تأسيس الجمعية الامبراطورية الارثوذوكسية الفلسطينية وتاريخ بدء تملك الاراضي في فلسطين وسورية بواسطة رجال الكنيسة الروس.

وتحت عنوان «النشاط التعليمي للجمعية الامبراطورية الارثوذكسية الفلسطينية» نقرأ اهم الرسائل التي كتبها المؤرخ الروسي خيروفو احد اهم الشخصيات ومؤسسي الجمعية الى الدوائر الروسية المختلفة، خاصة وزارتي الخارجية والمعارف الروسيتين لتحقيق اهداف الجمعية لفتح المدارس ودور المعلمين في سورية وفلسطين.

ويتضمن الكتاب ايضا وصفا دقيقا لتاريخ البنايات الروسية في فلسطين في الناصرة والقدس وبيت جالا، وهي رسائل تكشف للمؤرخ المهتم بالشؤون السورية والفلسطينية صفحات مغمورة ومعلومات مجهولة تخرج لاول مرة الى النور وتكشف عن تاريخ هذه المنطقة التي كانت دائما وعلى مر العصور محط انظار جميع القوى العظمى.

أما المجلد الثاني من هذا الكتاب الهام فهو مكرس لنشاط البعثة الدينية الروسية في الشرق. ويعود تاريخ الوثائق الواردة فيه الى اعوام 1842 ـ 1855 أي منذ تم تأسيس البعثة الدينية الروسية وتوجهها الى القدس وبدء نشاطها. وتكشف الوثائق عن بدء النشاط الروسي بشراء الاراضي في سورية وفلسطين وتدخل الدوائر السياسية المختلفة كوزارة الخارجية والمعارف وغيرهما من الدوائر في تمويل البعثات الروسية الشرقية. وكذلك نشاط اهم الشخصيات التي وقفت على رأس هذه المؤسسات وخاصة الارشمندريت كابوشين الذي مكث في فلسطين في الفترة 1865 ـ .1894 ويتضمن الكتاب ايضا معلومات قيمة حول فترة من اهم فترات التدخل الاوروبي في الشؤون الشرقية، وتتعلق بالاوضاع المعاصرة للصراع العربي ـ الصهيوني. فالجمعية كانت من اشد المعارضين للاستيطان الصهيوني في فلسطين.

فروسيا القيصرية حاولت ترسيخ اقدامها في فلسطين عن طريق تقديم العون والمساعدة لابناء الطوائف الارثوذكسية العرب الذين خاضوا معركة شرسة مع القيادة اليونانية المفروضة على كنائسهم في فلسطين وبلاد الشام بدعم من الباب العالي العثماني. ورأت السياسة الخارجية الروسية، كما تشهد وثائق الكتاب في النشاط الصهيوني المدعوم من قبل انجلترا وفرنسا، خطرا كبيرا على مصالحها الشرقية، وخاصة منطقة الشام، حيث تشير الوثائق القنصلية الروسية في بيروت الى ميل الساسة والدبلوماسيين الروس لتأييد نزعات التحرر العربية من محاولات الكولونيالية الانجليزية والفرنسية والمتمثلة بدعم افكار وممارسات الحركة الصهيونية التي بدأت نشاطا محموما لا تزال نتائجه تقلق صناع السياسة المعاصرة، وفقا لإشارة ناسينكو في المقال الملحق بالمجلد الثاني.

ومن هنا ينبع اهتمام وزارة الخارجية الروسية وخاصة فيكتور باسفليوك المستشار السابق لوزير الخارجية الروسية رئيس قسم الشرق الاوسط في وزارة الخارجية الروسية الذي قدم كل المساعدة لاصدار هذا الكتاب.

روسيا في الأرض المقدسة إعداد: نيقولاي ليسافوي