أبناء الثورة الإيرانية ينقلبون عليها

الباحث الإسلامي كرماني يدرس أحداث إيران في السنوات العشر الأخيرة ويركز على فترة حكم خاتمي الأولى

TT

صدر كتاب «ايران: ثورة الابناء» للكاتب والباحث الاسلامي نافيد كرماني قبل ايام فقط من موعد الانتخابات الايرانية الاخيرة ونال لذلك اهتماما خاصا من الصحافة الالمانية التي تتابع تطور العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية الالمانية عن كثب. وطبيعي فقد راج الكتاب في الاسواق الالمانية بسرعة، نظرا للسمعة الواسعة التي نالها كرماني من خلال عمله في المانيا وبحكم متابعته لتطورات الثورة الايرانية منذ سنوات لأهم صحيفة المانية، الا وهي «فرانكفورتر».

يستعرض كتاب كرماني المليء بالتفاصيل والامثلة والصور فترة حكم الرئيس خاتمي الاخيرة ويلخص بشكل ذكي مظاهر الاحباط الكبيرة بين الشباب من عجز الرئيس الاصلاحي عن تنفيذ برانامجه، الذي جاء دون تطلعات الغالبية الاعظمى من النساء والشباب. ولذلك فقد شكك كرماني بشكل ظاهر بامكانية الرئيس خاتمي على تحقيق ذات النتيجة التي حققها قبل اربع سنوات (70% من الاصوات) الا انه يشير بوضوح ايضا الى العقبات التي تعترض طريقه، والفرامل الذاتية التي ستتحكم باصلاحاته في فترة حكمه الثانية (نال 77% من الاصوات في الانتخابات الاخيرة)، والتي ستزيد من احباط الناس وتفتح ابواب مستقبل ايران بالتالي امام كافة الاحتمالات.

يقول كرماني في مقدمة كتابه انه يستعرض الحقائق ومجريات الامور في ايران ويترك التحليل للقارئ كي يستنتج ما قد تنجلي عنه التطورات، وانه يفعل ذلك بالنظر لتعقد الوضع في ايران وصعوبة استقراء مستقبل الاحداث وان حاول الانسان ذلك في فنجان قهوة. فاحتمال التغير التدريجي السلمي للثورة ممكن، الا ان شدة الصراعات بين التيار الاصلاحي والتيار المتشدد وعمق التناقضات الاجتماعية السياسية قد تدفع الاحداث ليس باتجاه الثورة فحسب وانما نحو حرب اهلية مجهولة الامد والابعاد ايضا. فالكاتب، كما هو الحال مع ملايين الايرانيين، يتطلع الى هذا المسار السلمي من الاحداث لكنه ينظر بقلق يشوبه الامل الى الاوضاع ويفضل التروي في الاحكام على المجازفة باطلاقها.

فالكتاب، إذاً، هو عبارة عن دراسة تفصيلية لأحداث ايران في السنوات العشر الاخيرة مع تركيز واضح على استعراض وتحليل مجريات الأمور خلال. وبنى الكاتب معلوماته على اساس رصيد كبير من المقابلات والمعلومات المستقاة من الصحافيين ورجال الدين والعلماء والطلبة والنساء الذين يشكلون الرابطة «الجينية» لجسم المجتمع الايراني. ويركز كرماني على الفترة الممتدة بين الرسالة المفتوحة لـ 134 كاتبا ايرانيا في اكتوبر (تشرين الأول) 1994 والموجهة ضد العسف الفكري وتحجيم دور الصحافة، وبين مقتل الكاتب المعروف هوشنغ غولشيري في يونيو 2000. وهي الفترة التي تلخص نهوض وتعثر الحركة الاصلاحية في ايران وموقف حكومة الملالي منها. فمعظم الموقعين على تلك الوثيقة نالوا قسطهم من الارهاب والسجن والقتل والهروب من عسف الوطن الى قهر المنفى. ويشرح كرماني في اكثر من فصل كيفية تحول الحركة الاحتجاجية من حركة ثقافية صغيرة تطالب بحرية الرأي والصحافة الى حركة اجتماعية عريضة تضم الشباب والنساء اساسا اضافة الى المثقفين ورجال الدين المتنورين واساتذة الجامعة والعمال وغيرهم. كما يتعمق اكثر في جذور هذه الحركة التي تحولت خلال سنوات من خدش سطحي في مرآة السلطة الثيوقراطية الايرانية الى شرخ كبير يهدد بتشظي هذه المرآة في اية لحظة. ويعترف بان اشد الشروخ قسوة في جسد حكومة الملالي في ايران كان انسلاخ جماعة رجال الدين الاصلاحيين وخصوصا التيار الداعي الى فصل الدين عن الدولة وعودة رجال الدين الى المساجد.

ويقارن كرماني بين ايران اليوم وايران ثورة 1979 والهزات التي شهدتها ايران خلال هذين العقدين من السنين، فيشير الى السنوات العشر الاخيرة التي شهدت اعادة تشكيل العلاقات الاجتماعية، واعادة تعريف القيم والتقاليد، والتوق الى العلاقات الثقافية السابقة التي سادت في السابق في ايران، وترابط ذلك مع تطلعات الحرية وتزايد مظاهر الفساد في اجهزة الدولة والتدهور الاقتصادي المطرد. ويشرح كيف ادارت الطبقة الوسطى، عماد الثورة الاسلامية وترسخها في السنوات الاولى، ظهرها الآن للثورة وانقلبت ضدها وكيف انسلخ ابناء الثورة الاسلامية (جيل شباب اليوم) عنها. فالدولة الاسلامية بتقدير كرماني، بكل قيمها وتشددها وعدائها للغرب وكافة تناقضاتها، «تبددت في المجتمع الايراني» وما عادت تمسك بزمام الامور كالسابق.

رفع الطلبة عام 1979 القمصان الملطخة بدماء زملائهم وطالبوا بالثأر لهم، وحمل طلبة يوليو 2000 ذات القمصان الملطخة من جديد وتعهدوا بالانتقام من قاتليهم. الا ان الفرق الكبير بين الاثنين هو ان طالب اليوم لا علاقة لا بالآيديولوجيا كما كان طالب السبعينات الذي يتطلع الى الاشتراكية او الحكومة الاسلامية. فالطلبة اليوم، والشباب عموما، لم يطالبوا باسقاط النظام الاسلامي وانما طالبوا بتطبيق البرنامج الاصلاحي للرئيس خاتمي وطالبوا بالحرية: حرية ان يقرأوا ويلبسوا ويشاهدوا ما يريدون، لا ما تريده الحكومة لهم، حرية ان ينفتحوا على العالم وان يتابعوا موسيقى البوب والافلام الغربية وموضات الملابس والشعور. ويشكل الشباب اليوم نسبة 70% من المجتمع الايراني وكان لهم الفضل الاعظم في انتصار خاتمي في انتخابات الرئاسة لكنهم ايضا رواد الحركة المطلبية الاجتماعية التي تهز اركان النظام في طهران القرن الحادي والعشرين. وهي مطالب وطموحات لا حد لها، ويتضاءل البرنامج الاصلاحي للرئيس خاتمي، رغم الكثير من انجازاته، كثيرا امامها وخصوصا حينما يتعلق الامر بحرية المرأة. فالثورة الاسلامية اضطرت لاخراج المرأة الايرانية (المحجبة) الى الشارع لاشراكها في التظاهرات المختلفة وفي العمل الدعائي للحرب وللمساعدة في قطاع الخدمات اثناء الحرب، الا ان هذه المرأة شقت في الشارع طريقها الخاص وشاركت بحماس في النشاط الاجتماعي والحركة المطلبية. وتشكل الطالبات اليوم النسبة الاكبر في الجامعات وتكشف الحياة الداخلية في البيوت ومظاهر الجمال والموضة المختفية تحت العباءة «الجادور» جزءا كبيرا من تطلعات هذه النساء.

ولعل الفصل الرابع من الكتاب الذي منحه الكاتب عنوان «آية الله كرة القدم» من اجمل واطرف واكثر فصول الكتاب دلالة على التغييرات الجارية في ايران. يستعرض كرماني كيف ترشحت ايران لكأس العالم 1998 بعد فوزها على استراليا بهدف سجله خوداد عزيزي وكيف خرجت الملايين الى شوارع طهران احتفالا بهذا النصر. هذه الملايين التي ارعبت سلطات طهران بتحديها للتعليمات وخصوصا حين تدفقت آلاف الايرانيات الى ملعب آزادي غير حافلات بتعليمات فصل المقاعد في الملعب بين النساء والرجال واحتفالهن مع الرجال حتى ساعة متأخرة من المساء. واذا كانت آية الله كرة القدم، من خلال الفوز على استراليا، قد كسرت «المحرمات» في طهران لعدة ساعات واثبتت استعداد الشارع الايراني لتحدي السلطات، فان فوز ايران على الولايات المتحدة في كأس العالم اثبت شيئا آخر: ان اكثر من عشرين سنة من الدعاية المعادية للشيطان الاعظم لم تحول الشارع الايراني الى جمهور عنصري حاقد على الاميركيين. كانت المباراة عادلة، تخللتها مظاهر ودية بين الفريقين وتعالت خلالها هتافات الفوز، الا ان هتاف «الموت لأميركا» لم تطلقه سوى حناجر معدودات.

ايران: ثورة الابناء المؤلف: نافيد كرماني الناشر: دار بيك، ميونخ 260 صفحة من القطع المتوسط