تشرشل.. من بطل قومي إلى رجل ثانوي

المؤرخ البريطاني جفري بست يتناول سيرة الرئيس البريطاني الأسبق المليئة بالتناقضات في مرحلة تاريخية نادرة

TT

يحظى رئيس الوزراء البريطاني الأسبق ونستون تشرشل بنصيب وافر ومتعدد الجوانب من الدراسات والرسائل الجامعية التي ينجزها بين الحين والآخر عدد من المؤرخين والدارسين لحياته السياسية والشخصية. إضافة إلى ذلك فان إغراء تقليل أو اعلاء شأن اي جانب من جوانب شهرته يبقى امراً لا يقاوم من قبل اولئك الدارسين والباحثين.

فمن التهم السياسية التي دائماً ما توجه إلى تشرشل هي إخفاقه عام 1940 في عقد معاهدة سلام مع هتلر، كذلك إخفاقه في انقاذ الامبراطورية من التحطم والانهيار، وبيع بريطانيا بسعر زهيد إلى الامبريالية الاميركية الجديدة، ورضوخه للشيوعية في شرق أوروبا والاشتراكية في بريطانيا. ولقراءة الآثار التوفيقية لسياساته تلك يجد المرء ان تشرشل لم ينقذ بريطانيا من السقوط بين يدي هتلر وانما عجّل في نفس الوقت من تراجع بريطانيا عن موقعها كقاعدة للقوة العالمية ووضعها في المرتبة الثانية في غضون سنوات قليلة.

وعلى هذا الاساس تأتي الآن ببليوغرافية المؤرخ الانجليزي البروفيسور جفري بست الجديدة وكأنها رفض لاغلب الصور القديمة التي رسمت عن تشرشل. فهو يهدف من جملة ما يهدفه إلى إفهام الجيل الجديد الحالي أسباب احترام جيله تشرشل.

لم يورد جفري أو يكشف عن وثائق جديدة لكي يضيف إلى ما جاء به قبله الكثير من الكتاب والباحثين الذين تناولوا سيرة حياة تشرشل. فالدلائل والوثائق التي يعرضها هي نفس الدلائل والوثائق المتوفرة إلا انها تنقيحية، فخرج بقطيعة ببليوغرافية تعيد إلى الاذهان شخصية ذلك الارستقراطي المظهر تشرشل بسيجاره الذي لا يفارق شفتيه وإشارة النصر التي يرسمها على الدوام خلال ذلك الوقت العصيب من أيام الحرب العالمية الثانية. يجد جفري ان شخصية تشرشل هي شخصية اسطورية اكثر من خرافية ويعطي القارئ، باعتباره مؤرخاً انجليزياً، مدخلاً إلى هذه الاسطورة.

ليس هناك من خلاف في ان تشرشل كان واسعاً كالحياة. فهو رجل انجليزي، ارستقراطي متميز، احب الحرب بروح صبيانية مهذبة واحب زوجته وعائلته بعواطف غير ارستقراطية. وهو رجل يعتقد، بين الجد والهزل، بانه يسير مع القدر. وكانت له القدرة على استثارة كل عاطفة، بدءاً من الاخلاص العميق وحتى الغضب الشديد، في نفوس اولئك الذين كانوا على علاقة معه.

وعن شخصية وموقع تشرشل يتساءل جفري بست ما الذي يستطيع السياسيون الآخرون اضافته إلى سجل تاريخ حياتهم اكثر من خدمة وطنهم خلال سنوات حرب ضروس ثم الحصول على جائزة نوبل للآداب؟ واي رجل آخر غير تشرشل يستطيع وهو في الثامنة والستين من عمره ان يقطع جواً اكثر من عشرة آلاف ميل في طائرة ضيقة، كثيرة الضوضاء وغير مدفأة لكي يصل إلى طهران والاجتماع بستالين ثم العودة منها سريعاً والانتقال إلى الجبهة لزيارة قواته؟ ومن غيره تهاوى على مقعده في جلسة مجلس الوزراء بعد يوم من معاناته من حالة ضعف مرضية مفاجئة؟

لكن جفري، من جانب آخر، يؤكد ان تشرشل لم يكن ليتحول إلى اسطورة لولا وجود ادولف هتلر والتهديد الالماني في الثلاثينات ثم اندلاع الحرب عام 1939.

فلولا تلك العوامل لأصبحت سيرة حياة تشرشل مثل سيرة حياة اي رئيس اعتيادي أو بالاحرى لأصبح موقعه ادنى مرتبة من زملائه القادة الآخرين. ان اخفاقه في الدفاع عن مقاطعة انتويرب البلجيكية عام 1914 وحملة الدردنيل السيئة الصيت عام 1919 والعودة الكارثية لنظام الذهب في التعامل النقدي عام 1925 ثم الدفاع دون هوادة عن السيطرة البريطانية على الهند في الثلاثينات كلها عوامل جمعت حول تشرشل الكثير من الاعداء والخصوم.

وفي معرض تحليله لبروز شخصية تشرشل يقول جفري انه في الوقت الذي وصل فيه هتلر إلى مسرح الاحداث كان تشرشل على وشك ان يصبح رجلاً كارهاً للسياسة، وبحاجة إلى المال وبلا هدف واضح لنيل منصب وزاري وصاحب سمعة سياسية غير مستقرة وشخصية عنيدة ذات طبيعة مباشرة، لكن الحظ لعب دوره عام 1940 فجعل من تشرشل شخصية عظيمة. فحينما اجتاح هتلر فرنسا قرر جمبرلين الاستقالة من رئاسة الوزارة البريطانية وانسحب اللورد هاليفاكس الذي كان المرشح الأفضل لتولي رئاسة وزارة الملك جورج السادس، كذلك انسحب اغلب اعضاء حزب المحافظين في البرلمان. وبهذا كان تشرشل الرجل الوحيد الذي يمكنه ان يتعامل مع حزب العمال فأصبح نائباً في البرلمان، مدعوماً بالاشتراكيين الذين يزدري سياساتهم. ومنذ تلك اللحظة اخذت شخصية تشرشل تبرز، ولكن ليس بين ليلة وضحاها، فكان هناك طريق طويل محفوف بالمخاطر.

حين اشتدت تهديدات الالمان بالاحتلال خلال خريف عام 1940 كان حماس تشرشل للحرب وتحديه الجريء قد وافق مزاج الشعب الانجليزي.

كانت إشارة النصر التي عُرف بها وهو يرفع يده إلى الاعلى ليؤشر بأصبعيه على شكل حرف V الانجليزي هي اشارة مقصودة، لكنها اشارة خشنة وعنيدة وفي نفس الوقت متحدية ومستخفة. وهكذا أصبح تشرشل رجلاً «منتصراً» فحتى لو لم يدخل الجنود البريطانيون المعارك معه بقلوبهم وايمانهم لكان مع ذلك قائداً ملهماً في لحظة ازمة قومية شديدة الوطأة.

ثم شارفت الحرب على نهايتها واصبحت خطب تشرشل اقل اهمية وإثارة، وأرغم على قبول ما اخبره به جنرالاته وزملاؤه لكي يتحول موقعه في الحلف الثلاثي الكبير من مسؤول رفيع المستوى إلى شريك صغير لروزفلت وستالين. وحينما دُحر في انتخابات يوليو (تموز) 1945 لم يستطع تشرشل ان يحبس دموعه. اذن لم اقصاه البلد الذي اعتبره بطلاً قومياً؟ لعل السبب في ذلك هو ان تشرشل كان رجل لحظة عام 1940 وانه سليل عهد قديم الطراز. ففي عام 1945 كان البريطانيون مرهقين بويلات الحرب ويتطلعون نحو عصر جديد وكان يمكن ان يعول على تشرشل بذلك ليقارع من اجل الحرية ولكن ليس من اجل ازالة آثار الحرب فقط فذلك ليس من عمل الفرسان، كما يقول جفري.

ويبدو ان رفضه السلام مع هتلر كان القرار الوحيد الصائب ان لم يكن الاخطر الذي اتخذه تشرشل عام 1940. اما الرأي الذي يقول بان تشرشل باع الامبراطورية فهو رأي ليس منطقياً من الناحية التاريخية لأن الامبراطورية البريطانية كانت سلفاً في مرحلة احتضار، ان كان ذلك بوجود تشرشل او بدونه. ولم يكن الاعتماد على الولايات المتحدة يعني فقط خياراً استراتيجياً، بل انه افضل رهان على استمرار حرية الامم الغربية وافضل من اي بديل دبلوماسي آخر.

وفي ما يتعلق بالهيمنة السوفيتية على شرق اوروبا يرى الكاتب جفري بست ان تشرشل لم يكن بمقدوره منعها لأن ذلك لم يكن ممكناً لحظة اندحار الجيش الالماني ولأن تشرشل لم يكن باستطاعته ان يتحدى القوى التاريخية التي واجهته.

حينما توفي تشرشل عام 1965 كانت بريطانيا تحتل موقعاً يختلف تماماً عن ذلك الذي حارب للدفاع من أجله قبل ربع قرن. مع ذلك فان تشرشل برأي اغلب المؤرخين والدارسين له يبقى مفارقة تاريخية كبرى ليس من السهولة ان تتكرر في عالمنا.

الكتاب: تشرشل: دراسة في تحليل عظمة شخصية المؤلف: جفري بست الناشر: هامبليدون ولندن لندن ـ 2001