غاندي.. فن تحويل المعاناة إلى سلاح فعال

سيرة فيلسوف اللاعنف وسرّ قوته الأسطورية في سيرة جديدة لمؤرخ أميركي نامق كامل

TT

بعد مضي نحو نصف قرن على اغتياله عام 1948م لم يزل العالم حتى الآن غير قادر على رسم خريطة دقيقة وواضحة عن اكثر شخصيات القرن العشرين أهمية وغموضاً: المهاتما غاندي.

دائماً ما يتبادر إلى ذهن المرء عند تأمل شخصية غاندي السؤال التالي: كيف استطاع هذا الرجل النحيل الجسد، الصعب المراس والمسلح فقط بالإرادة والطاقة التي لا تنفد في ان يتحول من محامٍ قروي بسيط وغير مستقر إلى رجل سيطر على الحياة السياسية الهندية لأكثر من اربعة عقود من الزمن استطاع ان يتحدى ويدحر اكبر امبراطورية في القرن العشرين، الامبراطورية البريطانية، بلا شك ان الذي احدث هذا التحول هو قابلية غاندي وتصميمه على خلق ذاته بنفسه أو كما عبر هو عن ذلك افتتانه بـ «تجارب» العيش.

قد شحذ قابليته هذه وتجاربه عبر ثلاثة ميادين متميزة عاش حياته فيها: انجلترا حيث وصلها عام 1888م وهو في التاسعة عشرة من عمره وامضى فيها ثلاث سنوات، وجنوب افريقيا التي عاش فيها بين عامي 1893 و 1914م واكتشف فيها قواه السياسية، ثم الهند التي عاد إليها عام 1915 لكي يصبح «الدينمو» الاخلاقي والعقل الحكيم لماكنة حزب المؤتمر الهندي الهائلة.

تعلّم غاندي مبكراً كيف يُزعج خصومه ان كان الجنرال سموتي في جنوب افريقيا أو اللورد ولينغتون في الهند وذلك من خلال محو الحدود بين الحياة العامة والخاصة. وكما يرى غاندي، فان الحياة السياسية الحديثة التي تجذرت صورها في ذاكرته تضم كل شيء مثل «لفة الافعى» حيث دقّت اسفينا بين الاخلاق الخاصة والنشاط السياسي العام. لذلك فان التوفيق بينهما ثم «سحب السُمّ من الحياة السياسية الحديثة» كان يعني تحول غاندي تحولاً داخلياً جذرياً. ولكي يمارس العمل السياسي كان عليه ان يعرض اكثر افكاره جوهرية وادق التفاصيل الخاصة بها واستخدام هيكله الجسدي الواهن كإبرة باروميتر يستطيع الجميع عند تأرجحها قياس مصداقية الامبراطورية الاخلاقية.

كانت جميع نشاطات غاندي مشبعة بالفعل السياسي: نظام حميته، ايقاعات امعائه، ضيق حالته الحسية، تعرضه للحمى، مزاجه القاتم، غزل نسيج ملبسه، مشيته، اغناؤه لالتقاط حفنة ملح وحتى صمته كلها أصبحت مصادر احاديث الناس والهامهم. اخيراً كانت مسألة مواجهة سياسات «هذا الدنيوي الداهية» تعني «تخفيف سرعة سفينة الامبراطورية البريطانية وبالتالي فقدان السيطرة عليها وتحطم أشرعتها».

عاش غاندي حياته مثل حكاية مسرحية حرص على إعادة روايتها من خلال كتاباته الكثيرة والتي تربو على اكثر من مائة مجلد وبخاصة سيرة حياته التي نسجت بعناية قصة البحث عن الهوية القومية مترافقة مع البحث عن الخلاص الروحي غلف غاندي نفسه بغلاف غامض يصعب اختراقه في كثير من الاحيان، وكان تأثيره واضحاً وصريحاً فيما هو يتبنى غموضاً متعمداً ومدروساً في انتقاء مصطلحاته وتعبيراته وذلك لكي يدع الآخرين يقرأون آمالهم ومخاوفهم من خلالها: الفلاحون الهنود والنخبة، السياسيون البريطانيون والشعب وكذلك الرأي العام العالمي.

من دون ريب ان الكتابة عن غاندي تعني السيطرة على تفاصيل اكثر الاساطير تعقيداً في التاريخ الحديث إلى جانب دراسة واستيعاب عدة مصادر دينية وفلسفية انتهل منها غاندي مفاهيمه ثم التصدي لحساسية سايكولوجية غير اعتيادية داخل عزلة هذا الرجل الشعبي جداً. وستانلي ولبرت كاتب هذه الدراسة هو مؤرخ امريكي قديم ترجع علاقته بالهند إلى زمن اول زيارة قام بها إليها وذلك بعد اسابيع قليلة من مصرع غاندي. ومثل كثيرين غيره ممن يودون القاء مزيد من الضوء على شخصية غاندي بحث ستانلي عن مفتاح يستطيع بواسطته حل لغز شخصيته فوجد ان هذا المفتاح يكمن في مفهوم «العذاب» الذي يتضمن كلا المعنيين: المعاناة والرغبة.

يحيل ستانلي سلوك غاندي «الذي يبدو غريب الاطوار أو لافتاً للنظر» إلى تقاليد التضحية الدينية ونكران الذات، ثم يناقش ان غاندي يهدف إلى أن يجسد في ذاته معاناة الآخرين لذا فقد حوّل نفسه إلى «شعلة منيرة.. أو مرجل للألم» وفي نفس الوقت يهدف إلى اخضاع وتحويل المه ـ احياناً بشكل مرضي ـ واسقاطه على اولئك الذين يحيطون به مثل زوجته المهملة جداً وابنه الاكبر ثم ابنة اخيه.

استخدم ولبرت في ببليوغرافيته هذه تقنية ـ كان قد استخدمها في ببليوغرافيته عن جواهر لال نهرو ـ تتألف من ربط لمحطات حياة غاندي وفقرات أو نصوص مقتبسة من كتابات شخصيته وتقديمها على شكل بحث أو تسلسل ببليوغرافي. وعلى هذا الاساس اعتمد الكاتب كثيراً على كتابات غاندي المختارة واستخدم ما يقرب من 800 مرجع وكذلك على كتاباته المنشورة نفسها، التي تقدر بخمسين مرجعاً.

بنفاذ بصيرة ادرك غاندي اهمية تحويل المعاناة إلى سلاح قوي وفعال. لكن هذه المعاناة نمت من داخل حالته كموضوع استعماري. وكما يروي نفسه بان حياته تميزت بالخوف والارتجاف والخجل وعدم القدرة على الكلام وعلى خلاف نظرائه من نخبة الهنود الذين كانوا اجتماعياً اكثر مرونة مع حكامهم، فان مفاهيم وسياسات غاندي انبثقت من ممارسة فعل الاذلال الفيزياوي الذي استطاع بمهارة ان يستخلص منه اعظم الطاقات الخلاقة.

آلام غاندي: حياة وتراث المهاتما غاندي المؤلف: ستانلي ولبرت الناشر: جامعة اوكسفورد ـ 2001