عنف الحكومة في البلدان العربية وتطرف الجماهير

دراسة بالإنجليزية عن أسباب الانتكاسات المتواصلة منذ عام 67

TT

هل العرب أصحاب مشروع سياسي للحكم والادارة وتأطير الجماهير؟ لماذا تراكمت هزائمهم المضاعفة منذ الهزيمة الاولى عام 1967؟ ثم لماذا كلما كانت هناك طروحات متقدمة نظريا وحماس شعبي جارف تقع الانتكاسة العظمى؟ والاهم في كل هذا، ما ينتج عن ذلك من عنف الحكومة وتطرف للنخب والجماهير.

ان كتاب «المعضلة العربية ـ دراسة في الفكر السياسي منذ 1967» للباحث د. فؤاد عجمي المتخصص في الدراسة الشرق أوسطية، هو من نوع الكتب التي تحمل قارئها الى مرحلة كاملة بكل صخبها، لكنها تمكنه من خاصية وامتياز مهيمن، وهي ان يقف شاهدا وحسيبا على طول هذه المرحلة، مما يمكنه في مرحلة اولى من معايشة الافكار والطروحات والاحداث واختبارها، ويستطيع في مرحلة ثانية ان يؤلف تمييزاته هو، وتقييماته.

انه بكل أسف حقا، ان تكون المرحلة التي تشملها الدراسة، هي مرحلة، بل مراحل لم تستطع فيها النخب السياسية والثقافية والحكام، ان يكونوا في مستوى المطمح الجماهيري، ومن المؤسف كذلك ان تتيه هذه الجماهير وراء ثورة حالمة، او انتقام إلهي يأتي من «آية الله» او من «سيف العرب» المغلول، بينما كانت حقائق اخرى تتكرس على أرض الواقع، حقائق كأنها اقدار جديدة لمحرقة الذات العربية.

ان أول ما تجب الاشارة اليه في كتاب «المعضلة العربية» هو انشغاله بنظام الاحالات والتصديرات، والتي يمكن اعتبارها موجهات اساسية من موجهات هذه الدراسة التي تتوسل قدر الامكان ان تكون علمية المنهج بالقدر الذي يقتضيه موضوع اشكالي من طبيعة الفكر السياسي منذ هزيمة 67 الى الآن.

هذه التصديرات والاحالات تكتسي اهميتها اولا في ذاتها، وترتكز ثانيا الى نوع من الاستعمال الوظيفي حين تجاوز سياقات او تفسر احداثا او تعلق على وقائع أو تأتي لتفرز تحليلا او تثبت وجهات نظر.

ويمكن ان نقسم هذه الاحالات الى قسمين: احالات غيرية من مصادر ومظانَّ، هي كتب ومقالات تدور في ذات الفلك، او هي مناطق معرفية مجاورة.

وإحالات ذاتية، هي منولوجات واسترجاع، حيث الذات تحيل على نفسها وتعيد التشديد على أفكار دونتها في كتب سابقة.

إن هذه الملاحظات ليست محض شكلية ولا تكتسي قيمة وصفية معزولة، بل هي جوهر عملية الانشاء الكتابي التي انتهجها فؤاد عجمي في التأليف وفي لم شتات موضوع، يصبح الكلام عنه وحصره في اطار وزمان محدد بمثابة معضلة اخرى، أو لنقل «معضلة مضاعفة»، ذلك ان الحديث عن المعضلة العربية هو بالتدقيق حديث عن «معضلات»، لكل منها اصول وامتدادات ونتائج واعراض مستقبلية. وهو الشيء الذي تترجمه تلك اللفتة الذكية من الكاتب حين عمد في بداية الكتاب الى التأصيل المعجمي والدلالي عن طريق الاحالة القاموسية الى معجمين اثنين اصيلين: معجم «وايبستريز» ومعجم «لسان العرب». وكلا المعنيين سواء في وايبستريز او لسان العرب هما من عائلة متقاربة، بل يكادان يتطابقان حين يجمعان على ان المعضلة هي كل شيء مستغلق.

وهكذا التليين عملية التوالج في هذه المستغلقات العربية والتي لم يخرج منها لا الجمهور ولا الحكام الى حدود الساعة، يختار فؤاد عجمي ان يبدأ كتابه بحكاية، اولم تكن الحكايات هي العلم الاول الذي قدم للاجداد الخبرة الانسانية، وجعلنا نحن الاحفاد نتوارثها؟

ربما تكون البداية بحكاية في دراسة يراد لها ان تكون علمية، امرا قد يحمل البعض على التقليل من علمية وأهمية معالجة تفترض فيها الصرامة، لكن تتبع الخطوط الكبرى لكتاب «المعضلة العربية» يؤكد ان استثمار هذا المكون الذي ينتمي الى المتخيل هو عقلنة وعقل لمرحلة تاريخية انبنت وتجسدت بحجم حلم صارم ثم انهارت دفعة واحدة مثل اضغاث الوسن.

ولذلك فإن مقولة: الواقع اشد غرابة من الخيال هي عين الصواب في هذا الكتاب، ومن ثمة فان حياة وموت الصحافي والناشر اللبناني سليم اللوزي، او بالاحرى حكايته، يمكن ان تكون نموذجا للحربائية والنفاق والتقلب في المواقف، هذا الرجل الذي عايش النخبة المخملية في بيروت من خلال انشائه مجلة «الحوادث»، التي نقلها بعد ذلك عقب حرب اكتوبر (تشرين الاول) 1973 الى لندن.

يصف فؤاد عجمي صحافة اللوزي بكونها كانت تعكس الدور المخصص للخطاب المكتوب والمسموع في السياسة العربية، حيث لا مكان «للمبادئ» وحيث يدفع الناس بالاشياء نحو الهاوية ثم يتراجعون الى الوراء لتبقى اللعبة مستمرة وتبقى الاشياء كما كانت عليه.

إن أهم المفاصل التاريخية التي صبت زيت الغموض على المرحلة التي تشملها الدراسة، ثلاثة احداث: حرب الستة ايام في يونيو (حزيران) 1967، وحرب اكتوبر سنة 1973، ثم الثورة الايرانية سنة 1979 ـ 1978.

ثلاثة احداث هي تكثيف للوعي السياسي العربي: وعي الهزيمة وخطاب الانتصار المحجوز ورجة الغضب الإلهي حول ما وقع في زمن الوفرة.

وما وقع في العالم العربي وما نتج عنه بعد ذلك، يشبه الى حد كبير محكيات ألف ليلة وليلة وعوالمها الفانتازتيكية، وكأن الامر يتعلق بفصول متعاقبة من «هزلية» طويلة.

لقد كان الحس العربي السياسي ضحية سوء تقدير وتمثلات خاطئة للمتغيرات العالمية، وسيطرت على الانظمة العربية روح شوفينية، ولم تستطع استيعاب دقائق وسيرورات الوضع الدولي العام، وانتهى العرب منذ 67 الى مآلات مأساوية: فهناك اتفاقية سيناء في سبتمبر (ايلول) 1975 بين مصر واسرائيل، واندلاع الحرب الاهلية اللبنانية في ذات السنة، واشتعال الجبهة الايرانية ـ العراقية في سنة 1980، وانسحاب مصر من المشهد الدبلوماسي العربي، واجتياح اسرائيل للبنان في سنة 1982، دخول «سيف العرب» الى الكويت، والذي تمكن بتهليل ومباركة عربية من احتواء الخطر الايراني ووعد بالتوجه نحو الابيض المتوسط لتأديب اسرائيل.

ان صدام حسين يشبه من نواح كثيرة جمال عبد الناصر، من حيث الايحاء بذلك الانتصار المأمول والاقرب من حبل الوريد، لقد استيقظ حينذاك القوميون العرب وتجاوزوا احلامهم وضغائنهم واجمعوا على قاعدة واحدة، وهي ان الحدود الفاصلة بينهم ان هي الا حدود مصطنعة، او بتعبير فيه حماقة واستخفاف: «ان هي الا خطوط في الرمال».

وفي هذه المناخات يتحرك كتاب «المعضلة العربية» يحلل الافكار ويسيس المواقف وينتقد ويصدر احكاما مطلقة وواثقة، بناء على المعطيات والمقاربات التي يستقيها من مستشرقين وخبراء في شؤون الشرق الاوسط ومن مفكرين عرب واكبوا لحظات الانكسار العربي لحظة لحظة. مفكرون من مجرات فكرية ومذهبية وسياسية متباينة حيث نجد: عبد الله العروي وصادق جلال العظم وأدونيس وعبد الله القصيمي وسامي الجندي ومحمد جلال كشك واحمد الشقيري وسيد قطب وغالي شكري ومحمد حسنين هيكل ولويس عوض... هذه الاسماء وغيرها هي اطياف فكرية ساهمت في تفكيك هذه «المعضلة العربية» وألهبت النقاش حول اسباب وطرائق النهوض العربي للخروج من هذه المآزق القاتلة.

عرب راديكاليون، بعثيون، اصلاحيون، اصوليون جذريون، اصوليون محافظون.. هذا هو «عالم العرب كما هو في الحقيقة»، وهو عنوان الجزء الاول من الكتاب.

الجزء الثاني من الكتاب يركز على مصر باعتبارها مرآة العرب ورمزا «للعالم القديم»، مصر الفرعونية التي عاشت التأثيرات المباشرة لحرب الستة ايام: مصر عبد الناصر ومصر السادات ومصر مبارك.

لقد كانت النتيجة بعد كل هذه التخبطات ان صار العرب يرون صورتهم في مصر بشكل اقل، فالماضي قد طوى تلك الفترة التي كانت تتصدر فيها مصر السياسة، وهكذا لم يعد رجال مصر ونساؤها غرباء بالنسبة لباقي العرب، لكنهم بتعبير الكاتب، صاروا شعبا يتخبط في مشاكله الخاصة، شعبا اختار مساره الخاص، وبالتالي لم يفلح مثقفوها وايديولوجيوها وأساتذتها الذين كانوا يجوبون الاراضي العربية، في الاقناع بان الولاءات القديمة لمصر ما تزال قائمة.

في الجزء الثالث والاخير والمعنون بـ«التراث المنكسر: دعاوى الاصالة واقع التبعية»، يبرز سؤال شائك: لماذا ما يزال العالم العربي يتحرك في مشاعره القديمة ويتخبط في احابيله وتجثم عليه الشكوك والمعضلات التي تنتمي الى الماضي؟

فمن ثورة محاصرة الى نصر عابر الى ظهور خطاب الاصالة التي يطرح قضية الاسلام كقضية محورية في صلب نقاشاته واهتماماته، والتي يجد الخطاب الاصولي الآن حضنا دافئا فيها، في ظل سعي المنهزمين في النظام العالمي الجديد وتأرجحهم بين اقتناء اثر الغرب وبين الرغبة في العودة الى عالمهم الخاص بحثا عن قيمهم في محاولة للاحتجاج والتمرد، لكنه تمرد لا يرتاد ابعد من ظله.

ان كتاب «المعضلة العربية» لفؤاد عجمي هو مناسبة للتفكير وفرصة للادراك، ذلك ان الوعي بالشيء هو ادراكه كما يقول «باركلي»، وليس مهما موافقة الكاتب حول الطروحات التي يجهر بها او تلك التي يعمد الى طمرها بين الاسطر، ذلك ان الانتكاس العربي الشامل هو امر مقرور به.

ما هو مشروعنا كعرب؟ ما هي هويتنا؟ من اين تبدأ وأين تقف؟ لماذا ترتمي النخبة الآن في عسل من اللامبالاة والسلطة والاوهام المنتفخة؟

ان الجواب عن هذه الاسئلة لن يتأتى الا بـ«التجاوز»، ذلك انه «ومع ذلك علي ان أقر أنهم مرضى اولئك الذين ينوءون بثقل كثير ويموتون بلا شيء»، كما يقول شكسبير في المشهد الثاني من الفصل الاول من مسرحية «تاجر البندقية».

الكتاب: المعضلة العربية: دراسة في الفكر السياسي العربي منذ 1967 المؤلف: الدكتور فؤاد عجمي الناشر: مركز طارق بن زياد للدراسات والابحاث 2001 ترجمة: لجنة الترجمة بمركز طارق بن زياد العنوان الاصلي للكتاب thought the arab predicament: arab polictcal and practice since 1967