إشكالية العنف وموضوعة التسامح

ترجمة جزءين من كتابات وخطب عطاء الله مهاجراني إلى العربية

TT

صدرت حديثا ببيروت ترجمة عربية لكتاب «التسامح والعنف في الإسلام» لعطاء الله مهاجراني، وزير الثقافة والفنون والآداب والصحافة والارشاد الإسلامي السابق في إيران.

والكتاب عبارة عن جزءين من المقتطفات المختارة من أفكاره وآرائه المكتوبة أو الملقاة على شكل خطاب، وكان يفترض أن يجعل الجزء المكتوب بأسلوب المناظرة مع أحد أبرز رموز التيار التقليدي. والجزء الملقى شفاهية، هو عبارة عن مرافعة طويلة شدّت الأنظار وسحرت مناصري الإصلاح والوزير، كما أذهلت مناوئيه وجردتهم من كثير من أسلحتهم السياسية. أياً كان الحال، فإن التاريخ سيسجل لمهاجراني أنه لم يكن كغيره من الوزراء، بل هو صاحب مشروع شكّل علامة فارقة وشخصية مثيرة للجدل في الحياة السياسية للنظام الإسلامي في إيران. وهكذا سيكون بالإمكان الاطلاع على حقيقة المساجلات الجارية في إيران منذ أربعة أعوام، بين الإصلاحيين والمحافظين والتلصّص من نافذة المطبخ المتخصص بصناعة القرار على ما يجري من تحولات في (القِدْر) الإيراني الذي يغلي بالألغاز والأحاجي منذ ثورة الخميني. وقد شكل مهاجراني منعطفاً سيتوقف عنده المؤرخون وهم يكتبون عن ملامح طيف خاص من أطياف الشخصيات الحكومية في النظام الإسلامي الإيراني، فمن هو هذا الرجل المستقيل اليوم، الذي تشير أغلب استطلاعات الرأي إلى أنه الرئيس المقبل بعد خاتمي؟

شغل مهاجراني المناصب العديدة منذ بداية الثورة حتى الآن، فأشغل من هو معه وأثار حفيظة بعض المتدينين بأفكاره الجسورة عن التقاليد والأعراف المتداولة إلى درجة التصادم والاستقطاب، وبالمقابل فقد ادخل الاطمئنان والرضى في قلوب البعض من غير المتدينين حتى ظنوا أنه حليفهم في معركة الحريات السياسية. وأطلق عليه يوماً لقب «رجل الشيخ الرئيس»، عندما عمل مساعدا للرئيس السابق هاشمي رفسنجاني للشؤون الحقوقية والبرلمانية، ونعت بـ «وزير البيت» عندما رشحته القيادة العليا لوزارة الثقافة والارشاد القومي مع بداية عهد الرئيس محمد خاتمي. وسمّي «وزير الوزراء» في إدارة محمد خاتمي الإصلاحية، لما لعبه من دور مركزي في برنامج الإصلاحات الخاتمية في مجال الصحافة والإعلام والثقافة والفنون. ثم يترجل عطاء الله مهاجراني من صدارة الوزارة ليصعد إلى مركب حوار الحضارات، وبذلك ينتقل من موقع ثقافة الحوار إلى موقع حوار الثقافات.

التسامح والعنف في الإسلام مناقشة موضوعية لآراء مصباح يزدي (أحد أبرز منظري اليمين المحافظ في إيران) بشأن موقف الدين والشريعة الإسلامية من مقولة «التسامح الثقافي» والحريات الفكرية في المجتمع الإسلامي، كان مهاجراني، قد نشرها في زاويته الثابتة في صحيفة «اطلاعات» الإيرانية على مدى تسع عشرة حلقة، وتمثل هذه المناقشة دفاع الوزير مهاجراني عن نظريته في «التسامح والتساهل الثقافي» من خلال تبيين أصولها الشرعية من المصادر الإسلامية، ردّا على حملة الانتقادات الشديدة التي قادها ولا يزال يزدي ضد هذه النظرية باعتبارها تعني «التسيّب» و«انعدام الغيرة». وتعود خلفيات هذا الخلاف في الرأي بشن الموقف من الحرية الفكرية والثقافية في الجمهورية الإسلامية الإيرانية إلى حدث 23 مايو (أيار) عام 1997، عندما فاز الرئيس محمد خاتمي في انتخابات الرئاسة السابعة في إيران، ثم اختياره لمهاجراني وزيراً للثقافة والارشاد الإسلامي في تشكيلته الوزارية، وقد وقف مهاجراني أمام البرلمان الإيراني وأعلن بأنه «يؤمن بالتسامح والتساهل الثقافي» وقال: «.. إذا أصبحت وزيراً للارشاد، فإنني سأنظر إلى المسائل من زاوية الشريعة السمحة السهلة». ومنذ ذلك الوقت، بدأ الوزير مهاجراني بتطبيق هذه السياسة عملياً، من خلال السماح بحرية الصحافة وتداول الرأي والرأي الآخر في المجتمع، فشرع يزدي بمهاجمة سياسات وزارة الثقافة وشخص الوزير مهاجراني والدعوة إلى إيقاف هذه السياسات وعزل مهاجراني عن منصبه. يقول المترجم: «إن ما دفعني إلى ترجمة هذه المناقشة إلى العربية هو شعوري بأن إشكالية «العنف» و«التسامح» مشكلة قائمة في مجتمعاتنا العربية أيضاً، والقارئ العربي أحوج ما يكون إلى الاطلاع على مثل هكذا مناقشات فكرية والإفادة منها».

في نقد نظرية العنف، يستبدل مهاجراني لغة الرصاص بلغة الحوار ويدعم ذلك بقوله: «إن أبناء إيران، إبان أحداث انتصار الثورة الإسلامية كانوا يلقمون فوهات بنادق العسكر بالزهور ويطلبون إليهم الكف عن اقتتال الاخوة إنهم يردّون على الرصاص بالزهور، فما بال البعض اليوم يردّ على الكلمة والفكرة بالرصاص؟ عندما يكون الأمر كذلك، فمن الواضح أننا بحاجة إلى مزيد من الحوار وإلى مزيد من التفاهم». أما نظرية «الغيرة الدينية» التي تنتج العنف، فإنها تقوّض أركان الفكر والثقافة والحضارة ونظرية «التسامح» تشيّدها وتبنيها. كما جاء في القرآن الكريم: «ولا تستوي الحسنة والسيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم»، وقوله تعالى: «يريد بكم اليسر ولا يريد بكم العسر». وحينما يشرح النبي صلى الله عليه وسلم شريعته، فإنه يصفها بالشريعة الحنيفة السهلة السمحة، وهذا لا يعني أن نكون متسامحين إزاء مبادئنا العقائدية ومبادئنا الإيمانية. فالإسلام ليس زقاقاً ضيقاً ومظلماً، حيث يرتطم الإنسان بجدرانه ويتعذّر عليه العيش (في ظله)، بل إنه طريق رحب يسلكه المسلم في حياته، طريق ملؤه الحيوية والنشاط والعطاء، وطبيعي أن جانباً من الشريعة السهلة السمحة ينسجم مع السماح للآخرين بإبداء آرائهم ووجهات نظرهم.

إن قوام الدين، يمتد بجذوره إلى أعماق الروح الإنسانية وإلى جوهرة الفطرة ومعرفة الإنسان وهو ليس أمراً خارجياً كي يتم تثبيته وتحكيمه بالقوة والإكراه. وهناك محطتان في حياة النبي صلى الله عليه وسلم توضحان بجلاء أن تعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع الناس كان قائما على أساس المودة والرحمة، الأولى: تعامله مع المسلمين بعد الهزيمة في معركة أحد. والثانية: تعامله مع المشركين في فتح مكة، وكما كان النبي صلى الله عليه وسلم مكلفاً بأداء الفرائض، فإنه كان مكلفاً بالتسامح مع الناس والتعامل معهم برفق أيضا، فكان منهج صلى الله عليه وسلم في الحكم والتبليغ يقوم على الرفق والتسامح ولم يكن ينبذ اصحاب الفكر والرأي الآخر ويزج بهم في السجون. والآية 159 من سورة آل عمران، تبين بوضوح كيفية تعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع الناس: «ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك. فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر. فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين». فالإسلام دين الحياة وشريعة العيش، وهذه الشريعة ليست تعليمات وأوامر عسكرية صارمة كي يشعر الشاب لدينا بالقلق والحيرة بشأن الدين والتدين، بل انها مرشد عملي يتصل بقلبه وفؤاده، في عيشة سهلة وحياة سمحة، كالسمك في الماء، لا كالطير في قفص، ويمكن تقديم الدين والشريعة والترويج لهما بجو يدفع الشاب إلى البحث دائما عن مهرب يلجأ إليه من دائرة الدين الذي يشعر بأنه عاجز عن الاستجابة لمتطلباته العقلية والفطرية.

وفي الفصل المعنون بـ «الاستجواب»، نقرأ ردود وزير الثقافة والارشاد الاسلامي الايراني السابق على مؤاخذات البرلمان الإيراني الخامس ذي الأغلبية المحافظة، أثناء استجوابه بشأن سياسة التساهل والانفتاح الثقافي في إيران. ومن خلال هذه الردود تتكشف سياسة المحافظين تجاه المثقفين والرقابة على الصحافة والمطبوعات والسينما والمسرح، ومن خلال الأمثلة الكثيرة التي يوردها مهاجراني، يتوضح مدى الجهد الذي بذله للدفاع عن الحريات وهو يحمل هموم الثقافة والفن والفكر على أرضية التسامح التي يتمتع بها الدين الحنيف.

ينتهي الفصل الأخير من الكتاب بهذا العنوان: «ليس الرقص أمراً مذموماً». ويورد في مقدمته حادثتين تعرّض فيهما عطاء الله مهاجراني إلى الاستفزاز والتشويش، أثناء إلقاء كلمته في استوكهولم وباريس، لكنه ظل رابط الجأش ولم يُستفز وتابع إلقاء كلمته: والنتيجة أنه لا أحد يطيق مهاجراني وأفكاره ومواقفه، فالمعارضة الإيرانية في الخارج ترى فيه مثقفاً مراوغاً، فهو لامع ومنفتح وقادر على تفكيك منطقها في التباكي على الحريات وتخشى براعته في إدارة الحوار مع المثقفين الغربيين، وبعض انصار الرئيس خاتمي يرون فيه دخيلاً على تيارهم، أما المتشددون المحافظون فيجدون فيه أخطر مناوئ لهم. ومصدر هذه النقمة على مهاجراني نقطتان: دعوته إلى الحوار والانفتاح وتحفظه على سلطة الفقهاء، فهو يرى أنه: «عندما تصبح السلطة السياسية بيد رجال الدين علينا أن نبدي الكثير من الحيطة... لأن من الممكن أن تصبح الحكومة الدينية مغايرة للدين».

يتطلع المتشددون إلى إمكان إمساك الوزير مهاجراني يوماً من يده واقتياده إلى سجن ايفين ويرغب المعارضون الليبراليون في أن يروه، يوماً ما إلى جانبهم في أحد المنافي الأوروبية، أما هو فينتظر اللحظة التي يرى فيها نفسه وقد تحرر من أعباء المنصب الرسمي كي ينصرف إلى الثقافة والكتابة والعمل السياسي خارج إطار الحكومة. وحتى ذلك الوقت ما زال الوزير مهاجراني يدير معركته باتقان عجيب وبحركات موزونة تماماً.

للكتاب ثلاث مقدمات وتمهيد وأربعة فصول هي: «التساهل والتسامح والحمية الدينية» و«منهج تأسيس وإقامة الحكومة الدينية» والمنهج النبوي في الخطاب ثم الأحكام والاستجواب» وينتهي بـ «وليس الرقص أمراً مذموماً».

* التسامح والعنف في الإسلام

* سيد عطاء الله مهاجراني ـ ترجمة سالم كريم

* الناشر: دار الرئيس ـ بيروت ـ لبنان

* الطبعة الأولى ـ ابريل 2001 ـ 182 صفحة، قطع متوسط