بعد أربعين سنة على مقتله.. من اغتال باتريس لومومبا؟

كاتب بلجيكي يبرئ وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية من تهمة اغتيال رئيس وزراء الكونغو السابق

TT

ليلة السابع عشر من يناير (كانون الثاني) عام 1961 شرعت قافلة من الجنود الكونغوليين باجتياز سهل جنوب كاتانكا الكونغولية. كانت القافلة تسير وسط غابة وجنودها يقتادون ثلاثة اشخاص وجوههم منتفخة من اثر الضرب المبرح. بعد حين توقف الجنود وأوقفوا كل واحد من هؤلاء الثلاثة امام شجرة واطلقوا عليهم الرصاص واحداً بعد الآخر حتى خروا صرعى جميعا، فرفسوهم داخل حفرة واهالوا عليهم التراب، في ما بعد، حينما أرسلت احدى الزمر لإزالة آثار الجرائم الى مكان الحادث لم تفاجأ بمشاهدة يد احدى الضحايا مرفوعة من تحت التراب وكأنها تريد إثارة انتباه العالم لهذه الجريمة السرية. تلك اليد كانت يد باتريس لومومبا، رئيس الوزراء المنتخب لدولة الكونغو المستقلة.

في هذا الكتاب «اغتيال لومومبا» يحاول الباحث الاجتماعي البلجيكي لودو دي وايت أن يزيل الغبار عن مسألة انطوت على غموض كبير تجاوز اربعة عقود من الزمن وفعلاً نجح الكتاب في دفع البرلمان البلجيكي الى تأسيس لجنة تحقيق في حادث مقتل لومومبا، والتي ستعرض نتائج تحقيقاتها اواخر هذا العام. وهذه اللجنة تلعب الآن دوراً رئيسياً في مسألة اعادة تقييم طال امده بخصوص دور بلجيكا في التاريخ المأساوي لما يعرف اليوم بجمهورية الكونغو الديمقراطية.

اغتيال غامض باستثناء اغتيال الرئيس الأميركي السابق جون كنيدي وداعية الحقوق المدنية مارتن لوثر كنغ فإن مصرع باتريس لومومبا كان من اكثر الاغتيالات مثاراً للغموض والجدل في حينه، حيث اندلعت المظاهرات الاحتجاجية الصاخبة، في جميع انحاء العالم تتقدمها شخصيات سياسية وادبية مرموقة من ضمنها كوفي انان السكرتير الحالي للأمم المتحدة. كذلك أصبحت مكاتب الامم المتحدة المحلية التي ارتكب لومومبا خطأً بدعوتها الى الكونغو انقاضاً، واهتزت الثقة بحيادية الأمم المتحدة التي لا تزال تعاني منها حتى الآن واستيقظ العالم على فنون والاعيب الدول الكبرى التي أصبحت مادة لسياسة الحرب الباردة لفترة تالية طويلة من الزمن.

يقول دي وايت ان الفرضية القائلة بأن اغتيال لومومبا لم يكن اطلاقاً من عمل مويس جومبي، رئيس متمردي القطاع الغني بالنحاس في كاتانكا هي فرضية لا تفاجئ احداً. فمنذ زمن طويل والافارقة يعزون قتل لومومبا الى بعض مبشرين بيض مبهمين، «صانعي دمى دينيين عيونهم على ما يصفه سفير اميركي مجازاً بـ «كافيار الكونغو» التي تحتوي على مصادر معدنية غنية» وبشكل عام وضعت مسؤولية اغتيال لومومبا آنذاك على عاتق وكالة الاستخبارات المركزية الاميركية التي كانت تعتبر لومومبا ذا الميول الشيوعية كاسترو آخر في افريقيا، لكنها مع ذلك اوقفت بشكل يثير الاستغراب الخطط الرامية الى وضع السم في معجون اسنان رئيس وزراء الكونغو السابق.

ان دي وايت يُبرئ ساحة الاستخبارات المركزية من الفعل الاساسي لعملية الاغتيال رغم ان واشنطن ـ كما لندن ـ كانت تريد الموت للومومبا وساعدت على ايجاد رأي جماعي على قتله. ويؤكد دي وايت على ان المسؤولية النهائية في التخلص من لومومبا لا تقع على الاميركان وانما على وزراء الحكومة في بروكسل وعلى خبراء الامن البلجيكيين الذين ارسلوا الى كاتانكا. كان هؤلاء الخبراء مجرد «مستشارين» لقادة المناطق المنعزلة الذين تنقصهم الخبرة حيث يمسكون في الواقع بزمام القوة الحقيقية في كاتانكا. وكان لومومبا قد الحق اهانة بالغة بالملك البلجيكي بودوين من خلال شجبه للبيان الكولونيالي البلجيكي في احدى الخطب المثيرة من خطب احتفالات الاستقلال. كانت بروكسل تعلم جيدا ان لومومبا يمثل تهديداً كبيراً لطموحاتها من الاحتفاظ بالسيطرة الاقتصادية الواسعة على الكونغو حال منحها الاستقلال الرسمي، واستناداً الى عينات من البرقيات المتبادلة وقراءة تسلسل الاحداث اضافة الى البحوث الدقيقة التي أجراها بعقلية مخبر يخلص دي وايت الى ان البلجيكيين كانوا يعتقدون ان المسألة سيصرف عنها النظر بسهولة وستعتبر قضية افريقية، طالما ان عملية اطلاق الرصاص ستتم على يد جنود كونغوليين، وعلى ذلك «هيأوا المسرح ورسموا المشهد ولقنوا الممثلين من وراء الكواليس».

ان كتاب دي وايت الذي يتزامن مع انتاج فيلم حول لومومبا للمخرج الهاييتي رولف بك يطرح الى جانب مسألة الاغتيال اسئلة جوهرية تتعلق بالسياسات الغربية التي اتبعت في افريقيا والتي سيتردد صداها لعقود قادمة من الزمن. ومن ناحية اخرى فإن دي وايت لا يوضح بشكل كاف لم قرر كل هذا العدد من الحكومات الغربية ان وسط افريقيا سيكون افضل من دون باتريس لومومبا، مختارة بدلاً منه جوزيف موبوتو، صديقه وسكرتيره الشخصي، ومن الفصل الاخير من الكتاب الذي يشتمل على حديث عن «تعبئة الجماهير» و «الثورة البرجوازية» يفصح الكاتب عن رأيه ويعتبر ان لومومبا قتل بسبب انه كان «قوميا متطرفاً» الامر الذي لا يقبله جيل الكولونياليين البلجيكيين الجدد. كما يشير الى وجود كثير من اللاعبين القدامى في الساحة الكونغولية منهم لاربي دفلين رئيس وحدة وكالة الاستخبارات المركزية المحلية الذي كان سيرفض عملية الاغتيال رغم علمه بطيران آلاف من «الخبراء» السوفيات الى ليوبولد فيل وقناعته بأن الكونغو ستكون نقطة انطلاق مثالية لسيطرة الشيوعيين في وسط افريقيا.

اغتيل لومومبا وهو لما يزل شابا في السادسة والثلاثين من عمره. ولعله لو بقي حياً لاقتفى ذات الطريق التي سلكها معاصره الغاني كوامي نكروما منسيا يكافح من اجل البقاء غير ان موت لومومبا بتلك الطريقة المأساوية حوله الى واحد من اعظم القادة الافريقيين في القرن العشرين.

اغتيال لومومبا المؤلف: لودو دي وايت الناشر: فرسو، لندن 2001