أزمات مستحكمة في الفكر السياسي العربي

الممارسة السياسية خلال الربع الأخير من القرن الماضي كانت موجهة ضد إنشاء الأمة

TT

يعالج محيي الدين صبحي في كتابه الجديد الغلط والوهم في النظرية القومية التي مورست في غضون نصف القرن الماضي ولم يكن مصيرها سوى الاخفاق الذريع. فبدلا من الديمقراطية، انتجت اشنع انواع الفاشية وباتت السلطة لا تدافع الا عن نفسها وتسعى لتأييد ذاتها، فحذف المجتمع المدني وصودرت حرية الكلام والبحث والتفكير وغاب المثل الاعلى الاخلاقي في عالم العرب، مما اوصل المجتمعات الى فوضى ليست مسبوقة.

استند التمهيد الى مقالة لبسام شلبي، تلخص الواقع العربي اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا، وتبدأ المقالة من دخل الفرد العربي الذي تراجع ما بين العامين 1986 ـ 1996 بمعدل ثابت: 2 في المائة، فيما بقيت الزيادة السكانية بحدود 3 في المائة، وهي الاعلى في العالم.

ان العراق حُطِّم ماديا وبشريا واقتصاديا والجزائر حوّلت من دولة وفرة وتقدم الى دولة ذات اقتصاد مخرب وميزانية مدينة بأكثر من 35 مليارا. وانحدرت اربع دول عربية الى مصاف الدول الاكثر فقرا في العالم هي: موريتانيا والصومال والسودان واليمن. وانهارت المشروعات الوطنية في الكثير من الدول العربية وخرجت من تجاربها الفاشلة من دون بنية تحتية وبميزانية شحيحة الموارد وديون خارجية مرهقة.

ان هذا العرض الجماعي ليس مفرطا في التشاؤم ولا تخففه اي تفصيلات فردية حتى بالنسبة لاغنى الدول العربية، حيث ارباح شركة «مايكروسوفت» السنوية (40 مليار دولار). وهي تقارب الموازنة العامة لأغنى الدول العربية.

واعتبر الباحث المجتمع العربي الراهن سليل المجتمع العثماني، فالعرب اليوم لم يتوصلوا بعد الى نفض غبار العثمانيين عن عقولهم وعاداتهم وقوانينهم.

ان المرء قد يثور على الاستبداد والفساد، لكنه اذا لم يكن يعرف ما هي الديمقراطية ومؤسساتها فسوف يمارس حين يتسلم السلطة اشنع انواع الفساد وابشع استغلال. وعلل ذلك بأن العرب بعد ان استقلوا دولا لم يعرفوا ما يصنعون باستقلالهم فتنابذوا حينا ثم فقدوا استقلالهم، في حين ان اوروبا في الفترة ذاتها تمكنت من انشاء هيكلية وتأسيس نواة دولة تمتد من تركيا الى السويد.

بعد انصرام القرن العشرين يقول الكاتب صار من الضروري اعادة النظر في «النظرية القومية» التي مورست خلال نصف القرن الماضي والتي لم يكن مصيرها سوى الاخفاق الذريع وانتجت عكس ما يراد منها، فبدلا من الوحدة خلقت كيانات مغلقة الحدود والاذهان والبصائر وبدلا من الديمقراطية انتجت اشنع انواع الفاشية. والخطأ الاكبر في النظرية القومية انها اخذت الامة كمعطى وجود، في حين انها فرضية تتحقق بالتطور والممارسة. وقد وهم المفكرون القوميون حين وجدوا شعوبا تتكلم اللغة العربية فظنوا انها امة عربية وسموّها بذلك، فالعروبة معطى طبيعي مثل الاشجار والرمال، اما الامة فمفهوم صنعي يتم تطويره بشكل عملي وهي جهد مستمر في صيرورة دائمة.

والحال ان الممارسة السياسية خلال الربع الاخير من القرن الماضي كانت موجهة ضد انشاء الامة بكل تفرعاتها وطاقاتها الى ان اصبحت كيانات مفككة متنابذة متعلقة بأي غريب، هربا من جور (الشقيق) العربي. فالامة المفككة كالامة الموحدة نتيجة ممارسة سياسة عملية مقصودة وواعية، لهذا كان لا بد من مثل اعلى خلقي تقاس به الممارسات السياسية، وفقدان المثل الاعلى في الاخلاق العربية اوصلنا الى فوضى لا نعرف معها اين نحن ولا من نحن، وضاعت المسؤولية بين الحكام والكيانات.

وتحت عنوان «الامة العربية: الذين صنعوا الوهم وصدقوه» تناول المؤلف وضع معظم المفكرين العرب، وخص منهم كتّاب السياسة فهم يعرفون ما لا يريدون: لا يريدون الصهيونية ولا الاستعمار ولا الاستبداد او الاستغلال، لكنك قد تزيل الطغيان ولا تعرف كيف تحل الحرية ومؤسساتها محله، فتغدو طاغية من دون ان ترمي الى ذلك، ثم تستمرئ الوضع.

وبعضهم لا يريد القومية ولا الهزيمة ولا الاوهام العربية، لكنه لا يقترح شيئا يحل محلها في حياتنا الفكرية، انه يقترح ان نكون شعوبا ناطقة بالعربية من دون هوية ولا تقرير مصير ولا هدف نشترك في تحقيقه، انه فكر عدمي يضعنا على حافة الفراغ وفقدان الهوية ويمهد الطريق للفرعونية والفينيقية والشرق اوسطية.

ثم يبحث الكاتب ازمة الفكر القومي والمشروع الحضاري العربي والهوية والانتساب الحضاري وصولا الى «التجزئة التي لم يصنعها الاستعمار».

اما في (العرب في العالم المعاصر) فيحلل محيي الدين صبحي بنية السلطة العربية التي لم تتغير منذ ايام الفراعنة، ويعتبر ان العثمانيين جمدوا الاسلام وتسببت بداوتهم وتخلفهم في تراجع الحضارة العربية وانغلاق الفكر العربي تجاه الثقافات والحياة المتطورة، حين قررت الحضارة الاوروبية ان تنتسب الى حضارة سابقة وجدت انها سليلة عصر النهضة الاسلامية. على هذا النحو دفنت الحضارة العربية مرتين: الاولى على ايدي المماليك الاتراك، ثم العثمانيين الذين انتحلوا صفة المدافعين عن ديار الاسلام، فنحوّا العرب عن القيادة وتقرير المصير ثم حكموهم وتحكموا بهم وبمواردهم حكما تعسفيا مطلقا باسم المحافظة على الاسلام والدفاع عنه، كما دفنت الحضارة العربية مرة ثانية على ايدي الاوروبيين الذين حذفوا الوجود العربي من الجغرافيا السياسية على الارض العربية واقاموا حدودا دولية للعرب بحماية النظام الاستعماري الاوروبي بعد الحرب العالمية الاولى. ومن سوء حظ العرب التاريخي ان الاستعمار الجديد ورث أسوأ ما حمله الاستعمار القديم ضد العرب: التقسيم التوراني للاقطار العربية ومساندة اسرائىل، ثم اضاف اليه قدرة على نهب الموارد غير مسبوقة في التاريخ ولا يوازيها سوى قدرته على التدمير.

ويواجه العرب مع بداية القرن الواحد والعشرين عدة تحديات ولا يمكن مواجهة هذه التحديات الا بحرية التعبير واصلاح النظام التعليمي الجامعي وطريقة التربية، لأن النتاج الفكري العربي متخلف عن العصر ومنقطع عن مشكلات المجتمع ويغلب عليه التخلف بوجه عام.

وقضية الدكتور عبد الصبور شاهين والاسلام والسينما والفنانات التائبات، ثم ندوة الاسلام والغرب فالخواتيم، حيث استعرض فيها اهم القيم التي كانت تشكل عالمنا العربي ثم انقلبت الى نقيضها كالوحدة العربية والحرية والتنمية والثورة، ولم يبق غير قول المعري:

الارض للطوفان محتاجة لعلها من درن تُغتسل يقول الناقد محيي الدين صبحي عن كتابه:

«لقد حاولنا في هذا الكتاب تقصي اصول الازمات المستحكمة في الفكر العربي السياسي، لا سيما ان التراث لا يسعفنا مطلقا في هذا المجال، اذ خلال خمسة عشر قرنا هجرية لم تتنوع انظمة الحكم في البلاد العربية تنوعا يستدعي التأمل في بنيتها واولويات عملها: خط مستقيم من الحكم بالقوة المجردة من أي شرعية تقطعه فترات من الفوضى الشعبية حين يضيق صدر الناس بالظلم او يجاوز الظلم كل حدود.

وقد ابرزت ما في النظرية القومية من ضلال يستدعي اعادة النظر في الثوابت القومية النظرية والعملية، راجيا من كل المخلصين ان يسهموا في اعادة انشاء نظرية قومية اكثر استجابة للعصر.

ـ عرب اليوم «صناعة الأوهام القومية» المؤلف: محيي الدين صبحي ـ دار الرئيس ـ بيروت ـ 334 صفحة فوق المتوسط ـ الطبعة الاولى: يوليو (تموز) 2001