عمليات أخرى غير الحرب

سياسة أميركا الخارجية والعسكرية في تسعينات القرن الماضي في كتاب هالبرشتام الجديد

TT

في الاسبوع الماضي، وارتباطا بالهجمات الارهابية المروعة، اكتشفت الولايات المتحدة ان الحروب الخارجية قد لا تكون هي مصدر القلق الأمني الأكبر بالنسبة للبلاد. فقبل جيل لم يكن الحال على هذا النحو. فقد كان الهم الأساسي انتشار الشيوعية، وسقوط «الأقنعة»، وكان التركيز على بلد غير معروف في جنوب شرقي آسيا.

ان أية قائمة نهائية موجزة من الكتب حول حرب فيتنام لا بد ان تشتمل على كتاب ديفيد هالبرشتام الموسوم «الافضل والاكثر تألقا» الصادر عام 1973، الذي يتعرض الى مهندسي الحكومة الاميركية لاطول الحروب التي خاضتها البلاد وأكثرها هولاً. انه يبقى نصاً مهماً بالنسبة لأولئك الذين يرغبون بمعرفة الكيفية التي اصبح بها توجه عدد قليل من المستشارين العسكريين الأميركيين مأزقا لقوة عسكرية زاد عدد افرادها على نصف المليون.

ان التأثير العميق الذي تركته حرب فيتنام على الكيفية التي ينظر بها الاميركيون الى قواتهم المسلحة ـ والكيفية التي ينظر بها العسكريون الى أنفسهم ـ أمر لا جدال فيه.

ولا يشعر المدنيون، خصوصا السياسيين، باهتمام بتكرار الفشل المأساوي الذي حصد حياة 58 ألفا من المواطنين الاميركيين. بل ان العسكريين لا يريدون ان يجدوا أنفسهم في حرب أخرى باهظة الثمن لا هدف واضحا فيها، ومستوى من الدعم الشعبي تضاءل، من الناحية الفعلية، ليصل الى لا شيء، ويتركون لوحدهم يتحملون مسؤولية القرارات السياسية المضللة.

ان كتاب هالبرشتام الجديد «الحرب في زمن السلم» يتخذ النظرة ذاتها الى سياسة أميركا الخارجية والعسكرية في تسعينات القرن الماضي، مشددا على خلفية وتجربة وشخصيات اللاعبين الرئيسيين.

وحيثما يوجه هالبرشتام انظاره يجد «اشباح فيتنام» بين المدنيين في ادارتي جورج بوش وبيل كلينتون، الذين لم يخدم سوى عدد قليل منهم في فيتنام، والذين عارض بعضهم الحرب بشدة، وبين كبار ضباط البنتاجون ـ كبار الضباط المقاتلين في فيتنام الذين يديرون الآن اكبر قوة عسكرية في التاريخ، وبين الناس والاعلام الاميركي حيث لم يعد هناك اهتمام بمعظم ما يشكل «القضايا الخارجية» بعد سقوط جدار برلين وانهيار الاتحاد السوفياتي.

لقد دخل بيل كلينتون، الذي لم يكن يتمتع بخبرة في السياسة الخارجية، والذي كان قد تملص من اداء الخدمة العسكرية، سباقه الرئاسي الأول، موجها اللوم لبوش على اهتمامه بأماكن خارجية نائية أكثر من اهتمامه بالبلاد، وكان بوش قد اشرف على حرب الخليج القصيرة والفائقة النجاح، ومع ذلك استطاع كلينتون ان يقرأ مزاج الناس على نحو دقيق في ما أخفق بوش في ذلك.

غير ان الحروب الأخرى ـ في العراق والبوسنة وهاييتي والصومال وكوسوفو ـ تتميز بطريقة معينة في التدخل من جانب القوة العظمى التي تظل توجه انظارها الى الداخل، ولم يكن أمام فريق كلينتون خيار واسع غير التدخل في هذه الحروب.

بل إن «عمليات أخرى غير الحرب» تعتبر أكثر صعوبة وايلاما في عصر ما بعد فيتنام ـ التعامل مع انتهاكات حقوق الانسان التي تصل في بعض الاحيان والحالات (كما في رواندا) الى الابادة الجماعية، أو «بناء البلد» في أماكن مثل الصومال، حيث الجنرالات والنزعة القبلية.

لقد كانت العلاقة بين كلينتون وجنرالات البنتاجون علاقة متخبطة ووعرة منذ البداية (وهو امر محتمل، الى حد ما، بالنسبة لأية ادارة مدنية للبيت الأبيض). غير ان هالبرشتام، الذي أجرى لقاءات ومقابلات حول كل شخصية رئيسية وعشرات من الشخصيات الثانوية، يكشف ان هذا صحيح في سنوات التسعينات.

ويكتب هالبرشتام قائلاً انه «بحلول عام 1998 كان كبار الضباط لا يزالون بعيدين، في الواقع، عن الثقة بكلينتون والناس المحيطين به، وكان هو، بالمقابل، لا يثق بهم». ويضيف هالبرشتام ان «اغراضهم كانت في الغالب اكثر من مختلفة، وكانت مبادئهم مختلفة، كما كانت تطلعاتهم الى القمة مختلفة، وهكذا حال نظرتهم الى أميركا، والى عوالمهم المختلفة».

غير ان الأمر أكثر تعقيدا من هذا في أوساط الاجنحة المتصارعة ـ الصقور والحمائم ـ في داخل المعسكرين المدني والعسكري. وعلى الدوام كانت فيتنام ـ «مقبرة النيات الطيبة، والآمال الزائفة، والتفاؤل المصطنع» ـ تطل بشبحها على المناقشات والصراعات داخل الحكومة.

ويتجلى هالبرشتام في أفضل حالاته عندما يصف اسباب ذلك ـ خصوصا في الصور التي يرسمها لكبار المسؤولين في وزارة الخارجية، ومجلس الأمن القومي، والبنتاغون. وتتميز بينها صور ريتشارد هولبروك والجنرال ويسلي كلارك. لكنه عندما ينتقل الى صراعات سياسية أخرى (مثل قضية مونيكا لوينسكي... الخ) يكون أقل ابداعا وأصالة، كما ان المرء يجد نفسه راغباً بمزيد من التحليل المستند الى خبرة المؤلف التي تمتد الى 30 عاما في الاطلاع على صياغة السياسة الخارجية للولايات المتحدة.

ان نهاية سنوات كلينتون لم تكن نهاية للصراعات المشبعة بروائح وتلاوين فيتنام بين الزعماء المدنيين والعسكريين كما يكتشف الآن، وزير الخارجية كولن باول، ووزير الدفاع دونالد رامسفيلد، والرئيس جورج دبليو بوش. وقد يتطلب الأمر جيلا آخر، ومؤلفا آخر سوى هالبرشتام، لتدوين تاريخ التخلص من الأرواح الشريرة عن طريق التعاويذ.

* من كتاب «كريستيان ساينس مونيتور»، وكان طيارا مقاتلا في القوات البحرية الاميركية في فيتنام.

* خدمة «كريستيان ساينس مونيتور».

الحرب في زمن السلم المؤلف: ديفيد هالبرشتام