إرتيريا .. ثلاث حروب مدمرة

كتاب موثق لأحد رواد حركة التحرر الوطني في بلد عرف أطول معركة استقلال في تاريخ أفريقيا

TT

مثل ولادة الروايات، جاءت فكرة تأليف كتاب «حركة تحرير ارتيريا: الحقيقة والتاريخ» لمحمد سعيد ناود. ففي ليلة كان المؤلف يسير في أحد شوارع أسمرة، مختلطاً ومشاركاً الجماهير التي خرجت من بيوتها لتحتفل باستقلال اريتريا بعد لحظات من اعلانه، وكان الشارع قد حمل اسم (موسوليني) في فترة الاستعمار الايطالي، ثم (هيلاسيلاسي) في فترة الاستعمار الاثيوبي، وأخيراً (الحرية) مع اعلان الاستقلال.

في تلك اللحظات بدأ التداعي في ذهن محمد سعيد ناود، مؤسس أول حركة وطنية ذات منهج تنظيمي تدعو الى التحرير، من ذلك التداعي ولدت فكرة هذا الكتاب (540 صفحة) الذي تحمّل الكاتب نفقات طبعه.

يسود الكتاب، وهو يتناول بدايات أطول معركة من أجل الاستقلال في تاريخ أفريقيا، السرد التحليلي الوثائقي، فالمؤلف يدعم الاحداث التي يتطرق اليها بعدد كبير ومهم من الوثائق، ظل يحتفظ بها في أماكن مختلفة لدى أصدقائه أثناء تنقله الطويل في عمله السياسي، ثم انخراطه مع قادة الحركة وقواعدها في الكفاح المسلح الذي أعلن رسمياً عام 1961 في المنطقة الغربية من اريتريا المعروفة بأغلبيتها المسلمة، لكن ما ميّز حركته (حركة تحرير اريتريا) أنها نشأت وعملت كتنظيم سري، وضمت في قياداتها وبين صفوفها المسلمين والمسيحيين، وحرصت على تمثيل جميع عناصر التشكيل السكاني في اريتريا.

ويهدف الكتاب من استعراض أسباب نشوء الحركة وعملها، الى الاستفادة من تجارب الماضي: «لأن الماضي والحاضر يحملان في باطنهما مؤشرات المستقبل» كما جاء في المقدمة.

وفي الواقع، لقد عشت (كاتب السطور) قريباً من القضية الاريترية منذ عملي في الصحافة في الستينات، ثم عرفت المؤلف عن قرب أكثر ولمدة طويلة، لذلك يمكن المراهنة، بضمير مرتاح، على هدفه الرئيسي من وراء الكتابة، ونـزاهته في ما سعى اليه في هذا الكتاب بالذات، أعني «خدمة المستقبل» في اريتريا، التي تواجه الآن انقساما خطيراً في قيادتها حول موضوع الديمقراطية، والمشاركة في اتخاذ القرارت المصيرية التي انفرد بها رئيس الدولة الحالي أسياس أفورقي، وتمسكه بنـزعة دكتاتورية جرّت اريتريا، وهي حديثة الاستقلال وفقيرة، الى ثلاث حروب مدمرة، لم يقتنع أغلب الاريتريين بأسبابها ولا بجدواها، ويبقى ارضاء الغرور الشخصي العامل الوحيد وراءها.

يبدأ الفصل الأول من الكتاب مع بداية نشوء الأحزاب في اريتريا، اثر صدور قرار الدول الأربع الكبرى بتصفية مستعمرات ايطاليا السابقة في أفريقيا (الصومال ـ ليبيا ـ اريتريا) بعد هزيمة ايطاليا وألمانيا في الحرب العالمية الثانية، ومنح شعوب الدول الثلاث المذكورة حق تقرير المصير. في عام 1948 تشكلت مجموعة من الأحزاب والجمعيات السياسية في اريتريا تنادي بالاستقلال، ثم تجمعت في كتلة واحدة اطلق عليها (الكتلة الاستقلالية). الاّ أن تلك الأحزاب، والكتلة الاستقلالية كانت تعمل تحت ثلاثة شعارات أساسية وعامة (الاستقلال ـ الديمقراطية والمشاركة في الحكم ـ وحدة الأراضي الاريترية). وكان التكتل الجديد يفتقر الى المنهج التنظيمي في عمله السياسي، لذلك، عندما نجح هيلاسيلاسي في تمزيق الصف الوطني الاريتري وضم اريتريا الى اثيوبيا عادت الكتلة الاستقلالية الى التشرذم، ثم الاختفاء عندما حظرت اثيوبيا العمل السياسي، وعبّر الاريتريون عن معارضتهم للاستعمار الجديد بالتظاهرات الطلابية والاضرابات العمالية العفوية والانتفاضات الوقتية.

ويقول المؤلف ان تأسيس «حركة التحرير الاريترية» كان استجابة وطنية لتلك الظروف التي فقد فيها الاريتريون الأمل في مواجهة سياسة البطش التي اتبعها هيلاسيلاسي ضدهم لقتل حسهم الوطني والى الأبد.

ويبدو أن محمد سعيد ناود، الذي عمل ضمن الحركة الطلابية السودانية أثناء دراسته في بورتسوان، ثم ضمن الأحزاب السياسية السودانية الى أن نال السودان استقلاله، قد اقتنع هو وعدد من زملائه المؤسسين أن النضال لتحرير اريتريا يتطلب في البداية عملاً تنظيمياً سرياً، يبعد التحرك الجديد عن أعين المخابرات الاثيوبية التي كانت تنشط وتعمل بقوة داخل اريتريا ضد أي نوع من المعارضة أو التذمر. وفي 2/11/1958 وضع المؤلف يده على المصحف، وتبعه سبعة أعضاء آخرين ليقسموا على العمل المشترك، ثم راحوا يناقشون اسلوب النضال الذي ينبغي انتهاجه (ص 42).

ويذكر الكتاب بالتفصيل مراحل العمل السياسي التي حددوها قبل وصول مرحلة تنفيذ الانقلاب على السلطة العسكرية الاثيوبية التي كانت تدير اريتريا من اسمرة، ويؤكد أن طرح الحركة كان الأقرب الى فهم الجماهير وأحاسيسها، وأنهم لم يبشروا الا بما هو موجود في وجدان الاريتريين. كما يذكر أسماء المؤسسين وأعضاء الفروع التي راحت تنشط داخل اريتريا وخارجها، الى أن عُقد أول مؤتمر للحركة داخل أسمرة (1961) وهو أول وآخر مؤتمر تعقده حركة وطنية اريترية داخل العاصمة، حيث كان الناس فيها يتعرضون الى مضايقات وغارات رجال البوليس والمخابرات الاثيوبية بانتظام.

والطريف في هذا الكتاب، أن المؤلف يذكر أسماء أعضاء جميع الفروع وعناوينها التي تنشط فيها، وبينها دكاكين داخل اسمرة، ومنازل، ونشر صوراً فوتوغرافية في آخر الكتاب تؤكد الحقائق التي يوردها ليدعمها وثائقياً. وقد امتد نشاط الحركة ليشمل العاصمة الاثيوبية ذاتها وعددا من المدن والأقاليم الأخرى حيثما يوجد الاريتريون في الجامعات والدوائر والتنظيمات العمالية والسلك الدبلوماسي، فالى جانب السرد التفصيلي الدقيق للأحداث بخلفياتها ونتائجها، يأخذك محمد سعيد ناود الى كل شارع وكل زاوية أو بيت جرت فيه تلك الأحداث، داخل اريتريا واثيوبيا أو في الدول العربية المجاورة. وهذا يعود الى خبرته الطويلة في الكتابة، فبالاضافة الى انه عمل لفترة طويلة مسؤولاً للاعلام في تنظيم «قوات التحرير الشعبية» ثم زعيماً لها بعد عمر محمد البرج الذي انتخب لخلافة أبرز وجه في معركة الاريتريين ضد الاستعمار الاثيوبي المرحوم عثمان صالح سبي، فقد كتب المؤلف أول رواية اريترية عام 1976 (صالح، أو رحلة الشتاء والصيف)، وهي عمل ذو بناء روائي متكامل، ولغة استطرادية سلسة، ولأنها تصور حياة القبائل التي تقوم برحلة موسمية الى شرق السودان للعمل في مزارع القطن والحبوب، فقد توفر فيها عنصر المكان بشكل مكثف، بينما ظل الزمن مفتوحاً على دوراته المتكررة.

ان كتاب «حركة التحرير الاريترية ـ الحقيقة والتاريخ» عمل توثيقي مهم يصور مرحلة طويلة من النضال الاريتري من أجل الاستقلال. ولا شك أنه يبعث ذكريات الحنين العميقة في نفوس الجيل الاريتري الذي عايش تلك المرحلة، الجيل الذي ما زال حياً، باستثناء الذين استشهدوا، وفي نفوس الأشخاص الذين عملوا في صفوف حركة التحرير الاريترية، وهم كثر، بناء على وثائق المؤلف التي تذكر أسماءهم الكاملة، كما يشير المؤلف في ختام كتابه الى الصحافيين والكتّاب والشعراء العرب والدول العربية التي ساندت الثورة الاريترية، في كلمة وفاء رقيقة، لم نعد نسمعها منذ تولت قيادة (الجبهة الشعبية) الحكم في اريتريا بعد الاستقلال. < حركة تحرير اريتريا ـ الحقيقة والتاريخ < المؤلف: محمد سعيد ناود < اصدار خاص