أخونا الأكبر العربي

فاضل السلطاني

TT

ماذا لو لم يمت جورج اورويل بمرض السل عام 1950، بعد سنة من صدور روايته الأشهر «1984»، التي باتت تعرف بشخصيتها المركزية» الأخ الأكبر»، هذا الأخ الذي يحصي أنفاسنا، ويتجسس على نأماتنا من خلال أجهزته الرهيبة، المرئية وغير المرئية؟ ماذا لو نفض ترب القبر عنه وعاد إلى زمننا؟ هل سيضيف فصولا جديدة لروايته الرهيبة أصلا عن قمعنا المعاصر، هل سيكتب عن أخينا الأكبر هذه المرة؟ في جريدة «الغارديان» البريطانية، التي احتفت الإسبوع الماضي كغيرها من المؤسسات البريطانية لمناسبة بمرور ثلاث وستين سنة على رحيل اورويل، يتسائل الكاتب ستيوار جيفريس فيما إذا كان صاحب» الأخ الأكبر» سيذهب إلى سوريا، إذا عاد من الموت، لا ليكتب فقط، بل ليقاتل أيضا كما قاتل من قبل ضمن الفصيل الأممي، الذين ضم عشرات الكتاب المعروفين من كل أناء العالم، إلى جانب الثوا ر الأسبان ضد الجنرال فرانكو عامي 1936-1939؟ هل سيكتب « تكريما لحلب»- على غرار كتابه « تكريما لكتالونيا»، الذي أصدره عام 1937، حين قتل أكثر من خمسة آلاف شخص نتيجة القصف الجوي في أيام معدودة؟ على الأغلب، سيفعل اورويل ذلك، فهو لم يعرف في حياته الانفصام بين الكاتب والإنسان فيه، على عكس كثير من الكتاب، عالميا وعربيا، وخاصة عربيا، الذين يفعلون عكس ما ينظرون، ويقولون ما لا يفعلون. إن أهمية هذا الرجل الاسثنائي، بغض النظر من تحولاته اللاحقة خاصة بعدما أصيب بالسل، تكمن في نضاله الفعلي ضد الظلم والقمع أينما كانا، ولإيمانه المطلق بحق الإنسان في امتلاك الحقيقة. والحقيقة هنا ليست نسبية. إنها، ببساطة، الحق المطلق في الاختيار بلا خوف. كان اورويل، مثل بطله وينستون سميث، في « 1984»، الذي يبذل جهودا يائسة لإنقاذ الحقيقة من تشويه أعدائه أو تأويله حسب ما يرودون، وما يتماشى مع نياتهم. لكن الطغاة لا يمكن أن يتعايشوا مع الحقيقة. إعدام الحقيقة أو تزييفها هما شرطا وجودهم وبقائهم، كما نلاحظ ذلك في روايته الأخرى الكبيرة» مزرعة الحيوانات». لم ييأس اورويل مرة من إيمانه بقدرة الحقيقة على هزم الدكتاتور. وكان الاسم الأصلي لروايته» 1984» هو « الرجل الأخير في اوروبا»، إشارة إلى إيمانه بإن الحرب على الدكتاتورية لا يمكن خسرانها ما دام هناك شخص واحد يحارب هذا الدكتاتورية. حين كتب اورويل هذه الرواية نهاية الأربعينات ، لم تكن الدكتاتورية قد تحولت بعد إلى منظومة سياسية واجتماعيةوثقافية متكاملة بالشكل الذي عرفنا منذ الخمسينات، بالرغم من القمع الداخلي الرهيب في فترتي الفاشية والنازية، كما إن العالم انتظر حتى المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي في الاتحاد السوفياتي السباق، الذي انعقد عام 1956، ليعرف عن مجازر ستالين. وهنا تكمن عظمة اورويل الذي رأى ما لم ير غيره، واستشرف عميقا، ما سيحدث بحدسه الروائي، ككل المبدعين الكبار، وبقراءته الواعية أيضا لحركة الواقع والمجتمعات الااوروبية أنذاك. لكن اورويل كان متفائلا بعض الشىء عندما توقع أن يبدأ عصر الأخ الأكبر الرهيب عام 1984. وكان عليه أن يرجع إلى الوراء كثيرا، حين أصبح الأخ الأكبر، منذ الستينات بشكل خاص، وكأنه حقيقة من حقائق الحياة الكبرى، إذ عمر طويلا في أكثر من مكان، وما يزال معمرا هنا وهناك.

رواية « الأخ الأكبر» لم تنته للأسف بعد، عربيا في الأقل . ربما نحن في فصلها الأخير، لكن الطغاة عبر التاريخ لا يتعلمون من بعضهم البعض.