معطف سارتر

مها حسن

TT

أحاول كثيرا أن أركز مستعيدة لحظات الولع الأول بسارتر. لم يقترحه علي أحد، ولم أجد كتابه لدى صديق أو قريب، لأكتشفه ضمن مرجعية ما، ولم يكن في بيت أهلي مكتبة، ولم يعرف أبواي القراءة والكتابة أصلا.

اكتشفته هكذا، بفعل التجربة، كأن تكون سائرا في شارع ما، فتجد نفسك أمام بيت جميل، يخفق قلبك أمامه، وتقول: هذا يشبه بيت أحلامي.

كنت أمر بالكثير من الشوارع الثقافية، وأسافر كل يوم في رحلة مع كتاب ما، قرأت كثيرا قبل أن أصل لسارتر، كأنني كنت أتعرف على العالم الثقافي، أتذوقه فقط، دون أن أقرر ذائقتي بعد.

أول كتاب قرأته، كان «هكذا تكلم زرادشت». تاريخيا، هو الكتاب الأول، الذي ذهبت منه، مكتشفة الفلسفة عموما، إلى الفلسفة الوجودية ثم إلى الأدب الوجودي.

في البيت الوجودي، عرفت سارتر وكامو في نفس الوقت... التقيت لاحقا مجانين من طراز آخر، ومن مدارس أخرى، بكافكا، الذي لا يزال يسكنني، ولا أزال أحمل بذوره التربوية، ويرتجف قلبي لذكره، بالسرياليين الذين علموني التمرد لاحقا، بماركيز، بديستويفسكي... إلا أن سارتر كان الأب المهيمن، لسنوات طويلة.

استمتعت بتأثير سارتر علي وأنا أكتب الرواية، متحررة قليلا من سطوته، كمفكر كتب الأدب، ولكن بعقل فيلسوف أكثر من مخيلة فنان، فظل يقظا طيلة الوقت، ولم يسمح لجنونه الفني، الذي ربما لم يمتلكه، بالتحكم فيه.

عقلانيتي الروائية، كانت نقمة بطريقة ما، اكتشفتها حين انتقلت للعيش في فرنسا. تبين لي أن الفرنسيين تجاوزوا أبي الفكري، وأنهم هنا، كسروا كل الصور والرموز والآباء.

حاولت التحرر من سارتر، وخلع معطفه، والأمر ليس دائما بالسهولة التي نتخيلها، فهو ليس مجرد قطعة مادية، نحملها من مكان، لنضعها في مكان آخر، فننساها، إنها التكوينات الأولى التي رافقت معرفتنا بالعالم، وتعريفنا له... كنت أقرأ في قواميس الوجودية لتعريف المشاعر والأفكار، وفق النظرة الوجودية للعالم. الآن، صار علي وضع كل هذا على طرف، من أجل حرية أكبر، في الانفتاح على تعاريف أوسع للعالم.

علمتني الوجودية، وأسست بداخلي حالات الشك والقلق والتساؤل الدائم واللايقين المعرفي وإعادة النظر في البديهيات والخوف الإيجابي «المبدع»... لا أزال وفية لسارتر خاصة، لامتلاكي هذا الأساس الفكري، الذي مهما حاولت تنويع ثقافتي لاحقا، فإنه «أساس» يحميني من أي إعصار ذهني، أنعكف على فرديتي، وأستعيدني.

علمني سارتر أن أكون أنا، فاستطعت التملص منه، وذهبت بحرية أكبر في روايتي الرابعة «حبل سري»، وهي أولى رواياتي التي كتبتها في فرنسا، وكانت الأقرب إلى البيت الذي أسسته بنفسي، يشبه البيت الوجودي، ولكن بزينة حديثة وتطريز «أنثوي» يخصني أنا، ككاتبة امرأة. لم أنتبه من قبل إلى أنني امرأة، كتبت روايتي الأولى، برأس رجل، كنت أرفض أن أكون امرأة، كنت - لا شعوريا ربما - أرضي سارتر، الذي تغيرت مواقفي منه في فرنسا، وتعرفت إلى الكاتبات النساء، اقتربت من عوالمهن، محاولة تعويض تجاهلي لهن، لأنهن نساء، إذ كنت أعتبر أن كون إحدانا امرأة، نقيصة، ثم عرفت كم فقدت من وقت، لأتعلم أن ما ظننته نقيصة ذات يوم، هو الجوهري. وهكذا أقبلت على سيمون دو بوفوار، فقراتها، لا بوصفها شريكة لسارتر، ولا من خلاله، ولكن بوصفها كاتبة، وعرفت فرجينيا وولف وأناييس نن وغيرهن...

كأنني وأنا أخلع معطف سارتر، أكتشف طبقات أجمل وأزهى من الأثواب المعرفية.

من زرادشت نيتشه إلى غثيان سارتر، إلى خفة كونديرا، إلى إيزابيل الليندي وأليف شفق وأنطونيو غالا... هناك الكثير مما يستحق القراءة والحياة على هذه الأرض.

* روائية سورية مقيمة بفرنسا صدر لها:

* «اللامتناهي - سيرة الآخر» رواية - عام 1995 في دار الحوار - اللاذقية، سوريا

* «لوحة الغلاف - جدران الخيبة أعلى» رواية - عام 2002 - سوريا

* «تراتيل العدم» رواية - عام 2009 - دار الكوكب - لبنان - بيروت

* «حبل سري» رواية - عام 2010 - دار الكوكب - لبنان - بيروت - اللائحة الطويلة لجائزة بوكر للرواية العربية.

* «بنات البراري» رواية، عام 2011 - دار الكوكب - لبنان - بيروت.

* «طبول الحب» رواية - عام 2012 - دار الكوكب - لبنان - بيروت.