البداية بولي الدين يكن ومذكرات نهرو

رشيد الخيون

رشيد الخيون
TT

لم تكن بمدينتنا الجبايش، في قلب الأهوار، مكتبة، إنما شيدت بنايتها وأخذها الطوفان بعد افتتاحها، ونزل السقف لثقله، لأن المهندسين لم يفهموا طبيعة الأرض الواقفة على الماء، التي لا تتحمل الكونكريت والحديد، ولما أعيد إعمارها تحولت إلى مستوصف طبي! ففي عام 1959 أرسل أهالي المنطقة برقية إلى الزعيم عبد الكريم قاسم (قتل 1963)، فيها المضحك المبكي، تقول: «نريد مستوصفا وطبيبا مقيما وطريق سيارات وإلغاء حلف بغداد وإعدام الجواسيس»! قرأت هذا، قبل عامين في صحيفة «اتحاد الشعب» الصادرة آنذاك. وكنت أبحث في أرشيفها عن الحراك الإسلامي فوجدت الكثير.

لكن كانت هناك مكتبتان شخصيتان، واحدة لمعلمنا الأديب المعروف فهد الأسدي (ت 1912)، وأخرى لمعلمنا عامر عبد الكريم الخيون، وبعد تحول صاحبي المكتبتين إلى بغداد، تسربت إلينا الكتب، وأول كتاب قرأته وكنت أحمله متفاخرا بيدي هو لولي الدين يكن (ت 1921)، وأظنه كان تحت عنوان «التجاريب».

كنت في الصف الثالث المتوسط (1969) حينها، ولما سألني، وأنا في الطريق، مدرس اللغة العربية عما بيدي قلت بحياء: كتاب ولي الدين يكن. بعدها لاحظت عند والدي كتاب «البيان والتبيين» للجاحظ (ت 255 هـ)، فأخذت أنتهز فرصة خروجه بعد الظهيرة، وأتخذ وضعه على السرير وأقرأ فيه، وما زلت احتفظ بفقرات كان والدي يجمعها من ذلك الكتاب وغيره، حصلت عليها عند رؤية الوالدة بعد فراق ثلاثين عاما. وطلب أخي الأصغر أن أنشرها باسم والدنا، لكني ما زلت مترددا، فهي نصوص فقط، وتحتاج إلى استخراج مصادرها.

استعرت من نوري الأسدي زميلي في الصف وشقيق معلمنا فهد كتاب «ماجدولين» الذي ترجمه مصطفى لطفي المنفلوطي (ت 1924)، قرأته في أجواء أعتبرها اليوم رومانسية جدا بقدر رومانسية الكتاب نفسه وعذابات العاشق، قرأته وكتاب ثلاثية «ست البنات»، ولا أتذكر مؤلفها. قرأتهما وأنا في القارب، وكان طوفان صيف 1969 عاتيا، لم يترك بمنطقتنا أثرا لتراب. ومن تأثري ببطل رواية «ست البنات»، فيروز، اتخذت هذا الاسم اسما حركيا عند انتمائي لاتحاد الطلبة العام، الذي تأسس 14 نيسان 1948، وعندما قيل لي: اختر اسما مألوفا، قلت لا يكون إلا فيروز! بقيت أعيش هواجس ماجدولين وبطلي «ست البنات»، وكنت أخوض حينها أول تجربة عاطفية، انتهت بالنظرات والإشارات عن بعد فقط. وكأني بالفقيه ابن حزم الظاهري (ت 456 هـ) وهو يكشف عما تخبئه نفسه في «طوق الحمامة»: أرى دارها في كل حين وساعة ولكن من في الدار عني مغيب فيا لك جار الجنب أسمع حسه وأعلم أن الصين أدنى وأقرب كان المشهد تماما مثلما عشته.

غير أن الكتاب الذي نقلني إلى مستوى ثقافي مشوب بأفكار محددة هو مذكرات نهرو؛ حصلت عليه من أحد الأصدقاء، وترددت في بداية الأمر بقراءته، لكن سهولة المبنى شجعني، ولما أتممته، سئلت في خليتي الطلابية السرية: ماذا قرأت؟ فقلت مذاكرات جواهر آل نهرو (ت 1964)، فطلب مني أن أعدها حديثا ضمن منهاجنا الثقافي. وخشيت من التجربة الأولى في الحديث أمام الآخرين بشأن من هذا القبيل، ولم يقبل عذري، فقرأت الكتاب مرة أخرى بخوف ووجل، وكأني مقبل على امتحان البكالوريا، ونجحت في التجربة، ومن حينها صرت أرشح للمسؤولية الثقافية في الخلية.

كان أصعب كتاب قرأته هو «ديالكتيك الطبيعة» لفردريك أنجلز (ت 1895)، وحسبت حينها أني فهمته، ولم أقترب من كتاب «رأس المال» لكارل ماركس (ت 1882) حينها، على الرغم من وجوده مترجما، وذلك لصعوبته وعدم ميلي للاقتصاد. إلا أن كتاب «عقلي وعقلك» لسلامة موسى (ت 1958) لم أبذل جهدا في فهمه والتوافق معه، وكان نصحني بقراءته شقيقي حميد الخيون (أعدم 1980)، وكان ضابطا في الجيش إلا أنه قارئ وجامع للكتب التقدمية، ومن المفارقة بعد تحوله إلى الخط الديني نصحني أن أنسى ما قرأت، وأن أبدأ بقراءة كتاب «فلسفتنا» لمحمد باقر الصدر (أعدم 1980)، وأخذ يلح علي بمقابلته بالنجف بعد قراءة الكتاب، وبهذا حصل الفراق بيني وبينه.

أما أول كتاب يهدى لي وبخط مؤلفه فهو كتاب معلمنا الأديب فهد الأسدي «طيور السماء»، ولم يبق صديق لي وزميل لم ير الإهداء، وذلك لشدة الفخر، وكتب في الإهداء مفردة «الصديق»! بعدها توجهت إلى كتب التراث، وقد حللت ببغداد، وصرت أقرأ وأدون فقرات من الكتب في دفاتر خاصة، وفقدتها، وأعدت التجربة بعد مغادرة العراق (1979)، لكن هذه المرة أدون النص مع المصدر كاملا. تلك بعض الذكريات مع الكتاب، قبل التعرف على عالم المكتبات وخوض تجربة التأليف! وما زال طعم «ماجدولين» والأجواء التي قرأته فيها، وأنا على الماء، في حافظتي، وكأن تلك البيئة كانت مسرحا لأحداثه.