الهوية الضائعة وإشكالية الانتماء في «ساق البامبو»

فوزها بجائزة «البوكر» العربية لم يكن اعتباطيا

TT

لم يأت فوز رواية «ساق البامبو» للروائي الكويتي سعود السنعوسي بالجائزة العالمية للرواية العربية «البوكر» لعام 2013 من فراغ، فهذه الرواية تتوفر على معظم اشتراطات النجاح والتألق والتأثير في قارئها الذي يشعر بأنه أمام نص مغاير ومختلف عن النصوص الروائية السائدة والمألوفة التي لا تضيف شيئا إلى مخيلة المتلقي، بينما تفعل «ساق البامبو» فعلها الساحر لما تنطوي عليه من ثيمات متنوعة، وآراء صادمة لا تخلو من سخرية مرة قد تصل في بعض الحالات إلى «الكوميديا السوداء» خصوصا حينما يتعاطى السنعوسي مع بعض الثوابت الاجتماعية والدينية والأخلاقية، فهو يمتلك قدرة مميزة في كتابة نص كوميدي، فكه، ساخر، لكنه لا يخلو من لسعات واضحة تلسع المتلقي وتجعله يعترف بأنه أمام كاتب موهوب يكاد يمتلك غالبية اشتراطات النجاح. سبق للسنعوسي أن فاز بجائزة ليلى العثمان لإبداع الشباب في القصة والرواية عام 2010، كما فاز بالمركز الأول في مسابقة «قصص على الهواء» التي تنظمها مجلة «العربي» بالتعاون مع إذاعة الـ«بي بي سي» العربية. وهذا الفوز المتتالي يدلل على جدته وقدرته الابتكارية في التعاطي مع موضوعات إشكالية جريئة غير مسبوقة.

إن من يقرأ «ساق البامبو» سيكتشف منذ الصفحة الأولى أنه أمام روائي بارع يمتلك مجمل اشتراطات اللعبة السردية، بل إنه محيط بالثيمات والمهيمنات الرئيسة للرواية، وأكثر من ذلك فإنه يتلاعب بها تلاعب الصانع الأمهر بمادته الفنية التي يريد أن يصنع منها تحفة أدبية نادرة. لا بد من الإشارة إلى قدرة الروائي الاستشعارية بأهمية هذه المهيمنات التي لم يخترها جزافا، فالرواية، في مجملها، تكشف أن مبدعها قد حسب لكل شيء حسابه، فلا مجال للمصادفات والمواقف العابرة أبدا، فكل شيء فيها مدروس بعناية فائقة يمكن تلمسها على مدار النص الروائي.

* الشكل والمضمون

* لا شك أن السنعوسي يدرك أهمية المضامين التي عالجها في نصه الروائي، ولكن تظل هذه المضامين ثانوية ما لم تقترن بتقنيات جديدة تحدد الشكل الروائي، وتمنح مبناه عمقا جديدا يضاف للتقنيات السائدة ويتجاوزها قليلا، فموضوعات من قبيل «العمالة الأجنبية، والهوية الضائعة، والانفصام، والازدواجية، والانتماء، والولاء للوطن، والبدون، والحب، والحرب، والأسطورة، والموروث الاجتماعي، وما إلى ذلك» هي موضوعات مألوفة ومتداولة إلى درجة الاستهلاك اليومي، لكن معالجتها والتعاطي معها بطريقة فنية هو الذي يمنح هذا الموضوع المكرر أو ذاك نفسه الإبداعي الجديد، فالجدة تكمن في التقنية المبتكرة، والمعالجة الفنية، وزاوية النظر المغايرة التي توقظ المتلقي وتجعله ينتبه إلى فكرة مبتكرة على الرغم من اجتراحها من وضع سائد ومكرس ومألوف.

لا نريد الإسهاب في موضوع الرواية ولكن يجب اختصار ثيمتها الرئيسة التي تتمحور حول شخصية «هوزيه» كما يلفظ بالفلبينية والإنجليزية، و«خوسيه» بالعربية والإسبانية، و«جوزيه» بالبرتغالية، أما في الكويت فإن اسمه يعني «عيسى»، وهذه أول ملامح ازدواجية الشخصية الرئيسة التي ستتوزع بين أكثر من اسم ووطن وعلم وديانة وثقافة وموروث اجتماعي وأسطوري. فحينما تأتي جوزفين للعمل في الكويت كخادمة تقع في قصة حب قصيرة جدا تنتهي بالزواج سرا من راشد عيسى راشد الطاروف الذي سيضطر لاحقا لتحرير عقد زواج رسمي لها بعد ولادة «عيسى»، لكنه يتخلى عنه بعد مدة قصيرة ويرسله مع والدته إلى الفلبين حيث يكابد شظف العيش حينما يقع والده أسيرا بأيدي القوات العراقية ثم يموت في مقبرة جماعية بكربلاء وهو لم يجتز عامه الثامن والعشرين، لكنه يعد زوجته جوزفين التي طلقها بعد مدة قصيرة بأنه سوف يسترجع ابنه إلى الكويت أو الجنة المفقودة بالنسبة للفقراء الفلبينيين، بعد أن يبلغ سن الرشد. وبالفعل يقوم صديقه غسان الذي ينتمي إلى شريحة البدون باستقدام «عيسى» إلى الكويت الذي تتقبله العائلة على مضض، لكنها تسكنه في الملحق الذي يعيش فيه الخدم وتتستر عليه خشية من الفضيحة، فالكويت، على حد قولهم، صغيرة ويكاد يعرف بعضهم بعضا! وفي خاتمة المطاف لا يستطيع «عيسى» أن يندمج مع عائلة الطاروف أو ينال اعترافهم، باستثناء شقيقته خولة وعمته عواطف، وعمته الثانية هند إلى حد ما، فيقرر العودة إلى الفلبين بعد أن يفقد عمله ويكتشف أنه لا يستطيع أن يتجذر، كساق البامبو، في الأرض الكويتية. وهناك يتزوج من حبيبته، ابنة خالته «ميرلا»، التي تنجب له ولدا يسميه «راشد» تيمنا باسم والده الذي أحبه من دون أن يراه أو يشعر بحنانه وأبوته. كما رفض اقتراح زوجته بتسمية الطفل «Juan» لأن هذا الاسم أيضا يلفظ في الفلبينية «هوان» وفي البرتغالية «جوان» وفي العربية والإنجليزية «خوان»، وهو لا يريد لابنه البكر أن يكون موزعا بين أكثر من اسم ووطن وهوية على الرغم من أنه يتحدر من أبوين ينتميان إلى عدة هويات وأوطان وثقافات متعددة، فـ«ميرلا» هي «مستيزا»، وبنت غير شرعية أنجبتها أمها «آيدا» من ممارسة جنسية عابرة مع سائح أوروبي منحها بالنتيجة ملامح أوروبية جميلة كانت تثير دهشة الآخرين وشهوتهم لها. أما أمه «جوزفين» التي طلقها راشد فقد تزوجت من ألبيرتو بعد سنتين وأنجبت له أخا سمته «أدريان» سيغرق في الساقية، ويصاب بعطب في خلايا الدماغ، لكنه يستعيد صحته تماما، بينما يفقد عقله إلى الأبد ويظل محدقا في الفراغ.

* بنية التوازي

* تقوم هذه الرواية على بنى متوازية، وهذا جزء من التقنية الجديدة التي استعملها السنعوسي في البناء الشكلاني لنصه الروائي.. ففي مقابل «عيسى» الذي ولد من أب كويتي وأم فلبينية، هناك «ميرلا» التي ولدت من أم فلبينية وأب أوروبي مجهول. وفي مقابل شخصية راشد الطاروف المواطن الكويتي الأصيل هناك غسان الذي ينتمي إلى قبيلة الطاروف ذاتها، لكنه «بدون»، أي بلا جنسية، وهو إلى حد ما بلا هوية على الرغم من أنه كان عسكريا وقد خدم الكويت خلال حقبة الحرب والاحتلال، لكنه ظل على الهامش وفشل حتى في الزواج من هند الطاروف التي أحبها، لكنه لم يستطع الاقتران بها لأنه ببساطة بلا هوية. وإذا كان راشد عيسى الطاروف قد انتمى إلى المقاومة الكويتية إبان الاحتلال، بينما كان غسان عسكريا فإنه يقابلهما في الطرف الفلبيني «ميندوزا» الذي فقد عقله في الحرب التي انطفأت في جبهات القتال بينما ظلت مشتعلة في أعماقه.

لا تقتصر بنية التوازي على كل الشخصيات التي مر ذكرها، فإذا كان البطل القومي خوسيه ريزال هو رمز للثورة والمقاومة الفلبينية للاحتلال الإسباني فإن الروائي إسماعيل فهد إسماعيل والشاعر فايق عبد الجليل والملحن عبد الله الراشد هم رموز للمقاومة الكويتية للاحتلال العراقي على الرغم من أن إسماعيل فهد ظل على قيد الحياة، بينما استشهد فايق وعبد الله الراشد وتم التعرف على جثتيهما لاحقا.

لا تخلو الرواية من جانب ميلودرامي، لكن ما يشفع لها هو سلاسة الأسلوب، ومتانة الحبكة، وعفوية السرد، وقوة الموضوعات التي عالجها السنعوسي برؤية فنية ثاقبة تضعنا أمام روائي مبدع يمتلك نفسا سرديا ممتعا استحق عليه عن جدارة جائزة «البوكر» العربية لعام 2013.