كيف يندفع الإنسان متعمدا إلى النسيان الأعمى؟

عالم النفس إرنست بيكر شرح معضلة الحياة والموت وخسر معركته مبكرا

المؤلف: إرنست بيكر
TT

الشاب العبقري كيركيغارد يتألق كالعادة. إنه روح الحفلة ونجمها الذي ينعش الليلة بأفكاره اللامعة وحسه الساخر. الكل متحلق حوله ومتلهف لسماع الكلمات الشريرة التالية التي ستخرج من فمه. ولكن عندما يعود كيركيغارد وحيدا إلى المنزل يتلاشى تدريجيا هذا الوميض من كلمات المديح وضحكات الفتيات الجميلات ونظرات الإعجاب. يحدق بالمرآة طويلا. ينظر باكتئاب إلى وجهه الميت ويقول بعدها: «أتمنى أن أطلق النار على نفسي!».

انهيار نفسي وعقلي كامل أمام الوجود كان يعيشه هذا الشاب الذكي واللامع الذي أصبح بعدها من أشهر المفكرين في التاريخ. كيف لشخص أن يجابه حقيقة هذا الوجود الذي يفوح منه العدم كلما غرست أصبعك فيه، كما يقول؟ كيركيغارد وجد الجواب عبر قفزة الإيمان الأخيرة التي تجعل الجسد يتبدد لتنغمس الروح في المطلق.

لكن عالم النفس إرنست بيكر، الذي عانى هذا القلق الوجودي والأوقات المؤلمة التي ينهار فيها العالم من تحت قدميه، كانت له العديد من الإجابات في كتابه الهام «إنكار الموت».

في هذا الكتاب، الذي يعترف في المقدمة بأنه أنضج ما قدمه، يحاول بيكر أن يزيح الظلال الثقيلة التي تنعكس على الإنسان وتسحبه للطبقات السفلية من شخصيته، وتجعله يشعر بالغربة وبمأزق الوجود غير المفهوم.

كتاب بيكر يحلل شخصية الإنسان الهارب من فكرة الموت التي ضغطها بعيدا في لا وعيه ليمنح هذا الإنسان الفرصة لمواجهتها، أو ليرى كيف لعبت في أعصابه، وصممت نفسيته، ودفعته ليشكل العالم الاجتماعي والثقافي الذي منحه الإحساس بالقيمة وساعده لكي ينسى قليلا مصيره المحتوم.

الكثير من الآيديولوجيات الروحية صورت الحياة بالعبء ومحطة العبور، ولكن هذه ليست الرسالة التي يريد بيكر أن ينقلها من خلال كتابه. من جهة أخرى، هو يختلف مع فلاسفة النهضة والتنوير الذين احتفلوا بالحياة وغرسوا الفكرة العملية الصائبة ببنائها وتطويرها، ولكن ما قاموا به هو أنهم دفعوا فكرة الموت بعيدا إلى الأعماق على أمل نسيانها. ولكن حتى أكثر الشخصيات الناجحة والسعيدة - كما تظن - تمر بأوقات مريرة من الإحباط وانعدام المعنى.. يكتب بيكر: «خلف الشعور بعدم الأمان وخلف الإحساس بالإحباط والاكتئاب، يتوارى الخوف الأساسي لدى الإنسان، وهو الخوف من الموت الذي يتمثل عبر عدد كبير من الطرق غير المباشرة». ليس سرا بعد ذلك أن نفهم لماذا شكلت الفنون والموسيقى والشعر عناصر أساسية لدى الشعوب كافة.

متى يتعرض الإنسان للصدمة النفسية التي تؤكد له رحيله المحتوم؟ يجيب بيكر على هذا السؤال الهام بالتأكيد على أن الطفل الصغير لا يصدق أنه يموت فعلا إلا بعمر التاسعة أو العاشرة. إنه يستوعبها تدريجيا. الطفل الصغير لا يشك بخلوده. أتى للدنيا ليبقى بها، ولا يمكن لهذا الوعي بالحياة أن ينطفئ هكذا فجأة. ولكن في بداية الصدمة يقول الطفل لنفسه - الذي هو نحن: «هناك أشخاص يرحلون ولست أنا». ولكن بعد ذلك يقتنع بألم بأنه أيضا سيكون مع الراحلين. ولكن هذا الموت يعارض فكرة رئيسية تحتل عقله، وهي أنه كائن فريد ويجب أن يحصل على كل شيء. شخصيته غير المفلترة تجعله يريد أن يملك أكبر شيء وأفضل شيء. حتى بين الأشقاء الصغار، الصراع يبدأ لأن كل واحد منهم يعتقد أنه أفضل من الآخر، ويجب أن يحصل دائما على الأفضل. كيف لهذا المخلوق النرجسي الذي يعتقد أن كل الكون يمتحور حوله، أن يقتنع بأنه سيختفي بلمحة عين؟ إنه يتبلع مجبرا الفكرة، ولكنه يحاول إنكارها. إنه يضغطها للأسفل، ولكنها تتحول كالدودة التي تنهش في أحشائه طوال العمر.

ولكن قبل أن يجيب بيكر على سؤال كيف أثرت هذه الصدمة عليه، يطرح سؤالا آخر وهو: لماذا فكر الإنسان بهذه الطريقة؟ يقول بيكر: «عرفنا دائما أن هناك شيئا غامضا وغريبا حول الإنسان، شيئا غائصا في أعماقه يتحكم به ويجعله منعزلا عن بقية الحيوانات، شيئا مسكونا في جوهره العميق يجعله يعاني من قدره الغريب الذي لا يمكن الهروب منه». تكمن هذه المفارقة في أن الإنسان مزدوج. بين الجسد المحدود الذي يسكنه قلب يدق وأنفاس تدخل وتخرج، وعقله الرمزي السارح في الفضاء. بين الوجه الذي له اسم وتاريخ وعائلة، والداخل المجهول المتبعثر في كل اتجاه في الكون. هذه الوجودية الثنائية، كما يشرح بيكر، جعلت موقفه مستحيلا والمفارقة مرهقة. يغدو كل ما يفعله في عالمه الرمزي هو محاولة لإنكار قدره الغريب والتغلب عليه. على العكس من الحيوان، اللغة التي تسللت إلى عقل الإنسان منحته نوعا من الضوء الواعي الداخلي، ولكنه أدرك سريعا محدوديته وأنها التي تزحف إلى حتفها. كل هذا يصطدم مع رغبته العميقة بالحياة والتعبير عنها. ما الحل إذن الذي قام به؟ يكتب بيكر: «إنه يقوم بدفع نفسه حرفيا إلى النسيان الأعمى من خلال الأدوار الاجتماعية والخدع النفسية والاهتمامات الشخصية التي تبعده عن الواقع». إنه تصرف أشبه بالجنون، ولكن، كما قيل، الإنسان يجب أن يكون مجنونا، وأن لا تكون مجنونا فهذا نوع آخر من الجنون.

الحياة تقوم بعد ذلك بامتصاننا بالأدوار المعدة سلفا. النظام الاجتماعي الذي نولد فيه يرسم لنا الطريقة الصحيحة التي نشعر من خلالها بالبطولة والقيمة والتي تجعلنا نتجاوز قدرنا. نصبح بالضبط كما هو متوقع منا. يضيف بيكر: «بدلا من مواجهة سرنا الداخلي، نقوم تدريجيا بتغطيته ونسيانه». نصبح بعدها الإنسان الخارجي الذي يجيد لعب أداور البطولة الاجتماعية. الزوج أو الزوجة، الشخص الوطني، الشخص الناجح والذكي، أو حتى الفرد الناجح في الإنجاب والتناسل. هذه ما يسميها بيكر «القوى المستعارة». كل طفل، كما يشرح، يغمس نفسه في القوى التي تساعده لتجاوز نفسه. هي خليط من القوى المستعارة من الأبوين والمحيط الاجتماعي الصغير، وكذلك قوى الأمة برموزها وتقاليدها. هذه الشبكة غير المفكر فيها تمنحه الدعم اللازم كي يؤمن بنفسه. هو طبعا لا يدرك أنه يعيش من خلال هذه القوى المستعارة؛ لأنه لو فعل فسيبدأ بطرح الأسئلة عن معنى تصرفاته وسلوكه، وعن الإحساس بالثقة الذي هو بأمس الحاجة إليه. سيفضل أن يعيش تحت حماية هذه القوى اللاواعية التي تمنحه المعنى والثقة؛ لأن الشك بها سيكشف عن الضعف والفراغ الداخلي الذي يحاول التمويه عليه.

بأفكاره العلمية العميقة وأسلوبه الساحر يشرح بيكر فكرة البطولة لدى الإنسان التي تعتبر المنتج الأبرز لمكافحة فكرة الموت. نحن أشخاص نبحث عن الإحساس بالبطولة من خلال الأدوار الاجتماعية من أجل تجاوز ذواتنا المحدودة. ولكن أيضا، كما يكتب بيكر، «كل جماعة، صغيرة كانت أو كبيرة، لديها دوافع شبيهة بدوافع الفرد الساعية للخلود. تكشف هذه الدوافع عن نفسها عبر سعي الجماعات لخلق الرموز القومية والروحية والفنية والعناية بها». حتى المجتمعات العلمانية تسعى لخلق رموز لها وتقديسها في إطار سعيها لتخليد ذاتها، وهذا يفسر اندفاع الأفراد نحو إسباغ صفات البطولة على القادة السياسيين أو الدينيين؛ لأنهم يريدون أن يشعروا بأنهم أكبر من ذواتهم المتعطشة للإحساس بالقيمة والبطولة. لهذا يكتب بيكر: «القادة الديكتاتوريون والساديون يدركون أن الناس يرغبون في أن يجلدوا بالاتهامات القائلة بالانعدام العميق لقيمتهم؛ لأن ذلك يعكس بشكل صحيح ما يشعرون به عن ذواتهم. السادي لا يخلق المازوخية وإنما يجدها جاهزة». الهروب من الذات يوجد بوضوح من خلال فكرة التمدد الذاتي لما هو أبعد من حدود الفرد. الحب أحد أشهر السبل التي من خلالها يتمدد الشخص ويلتحم بوجود آخر. لكن نجاح التمدد الشخصي يلزم أن ينغمس الشخص بوجود كامل ومثالي، وهذا ما يوفره الحب في البدايات، ولكنه يفشل حتما بتحقيقه بعد ذلك. لا يشعر المحب بأن تمدده الذاتي يجعله يهرب من نفسه، بل يعيده إليها بشكل أسوأ وأكثر خيبة من السابق. حينها فقط تبدأ الشقوق بالارتسام على المعنى الرومانسي للحب، حتى تؤدي إلى انهياره التام.

ماذا على الإنسان أن يفعل لكي يواجه هذه المفارقة التي يعيشها؟ يقول بيكر إن كيركيغارد دخل في ممارسة فكرية صعبة وخطيرة لكي يصل إلى فهم حقيقة الإنسان من دون أن يكذب على نفسه. إدراك حقيقته عبر تبديد الأكاذيب المسكونة فيه، من خلال تكسير روحه لجعلها تتفتت وتهرب من السجن الذي تعيش فيه. الطفل الصغير تعلم الاستراتيجيات والتكنيكات التي تحافظ على ثقته بنفسه في مواجهة رعب الرحيل. لكن هذه التكنيكات أصبحت الجدران التي جعلت منه سجينا. إنها وسيلة الدفاع التي تجعله يمضي في حياته، ولكنها تحولت إلى فخ حياته العميق.

كيركيغارد يريد من الفرد أن يرمي كل هذه الاستراتيجيات الثقافية ويقف عاريا في عاصفة الحياة.

لا يطلب بيكر مثل هذه المطالب الصعبة، ولكنه يشرح مفارقة الإنسان الذي يشعر دائما بالغربة في العالم. المفارقة أن بيكر الذي يطالبنا بأن نواجه الموت وجها لوجه، واجهه حرفيا وهو ما زال في عمر مبكرة. في عمر التاسعة والأربعين تم اكتشاف إصابة بالسرطان الذي لا أمل في شفائه. تم نقله للمستشفى حتى يقضي أيامه الأخيرة. كان يشعر بالحزن على هذا المواجهة المبكرة، ولأن أفكاره لم تحظ بالتقدير والاهتمام (أو لم يشعر بأن بطولته تحققت كما نريد كلنا). عندما اتصل به الكاتب سام كين ليجري معه الحوار الأخير وافق لأنها كانت الفرصة الأخيرة له ليشرح أفكاره ورؤيته، وربما ليشعر ببطولته الشخصية وتمدده الذاتي. يقول كين عن ذلك اللقاء: «دخلت الغرفة وطردنا الموت مع الشبابيك. لم يكن هناك إلا الخلود. من المؤسف أن ترى رجلا عظيما يتألم».

في الحوار تحدث بيكر عن أفكاره حول الموت الذي كان يدرك أنه ينتظره في الخارج وسيطرق الباب عليه في أي لحظة. كان بيكر ينتظر أن ينشر عدد المجلة الشهري التي ربما كانت فرصته الأخيرة لينتصر على الموت. ولكن حتى هذه اللذة الوجودية الأخيرة لم يتحصل عليها. مات يوم الجمعة قبل ثلاثة أيام فقط من نشر العدد.