كتابان أثرا في حياتي

عمر كوش

TT

ما زلت أذكر أن أول كتاب أدبي قرأته في حياتي، هو رواية «البؤساء» للروائي الفرنسي فيكتور هوغو. كنت في الـ14 من العمر، ولا أدري كيف وقعت الرواية، ذات الورق الأسمر، بين يدي. وحين بدأت بقراءة الصفحات الأولى، أحسست بشيء غريب يتملكني، ويجذبني إليه، ورحت أقرأ بنهم، ولم أشعر، في اليوم الأول، أني تجاوزت موعد نومي المعتاد، بل وبقيت أقرأ حتى الصباح، وفي اليوم التالي ذهبت إلى المدرسة شارد الذهن، من دون كتابة الواجبات المدرسية، وفي المساء، تركت اللعب واتجهت إلى مصاحبة جان فالجان، والمفتش جافيير، وفانتين، والطفلة كوزيت.

بقيت بعض أحداث الرواية ترافقني لفترة طويلة من الزمن، وكنت أتصورها كالحلم المزعج، خاصة مشاهد ملاحقة المفتش جافيير لجان فلجان في أزقة ومجاري باريس، كنت أتخيل أنني جان فلجان بصورة أو بأخرى، لكني لم أكن أعلم من كان يلاحقني تماما في سراديب ومجاري حلب ودمشق.

حين كبرت، علمت أن ما يزيد عن الـ5 صفحة التي قرأتها، لم تك صفحات الرواية كاملة، التي تناهز الألفي صفحة، في أربعة مجلدات. ولعل قراءتي لـ«البوساء» جعلتني أتجه نحو قراءة الأدب الفرنسي، ثم الأدب الروسي الكلاسيكي، وسائر الآداب العالمية، وأثرت على قراءاتي للروايات العربية، لكنها فتحت باب القراءة واسعا أمامي، بالتزامن مع قراءة الشعر. ثم اتجهت قراءاتي نحو كتب الفلسفة والفكر والسياسة.

في تسعينات القرن العشرين، حدثت لي انعطافة فكرية كبرى مع قراءتي لكتاب «ما الفلسفة؟» للفيلسوف الفرنسي جيل دولوز. أعدت قراءة الكتاب في أكثر من مناسبة، وأحسست أنه كتاب معلّم. كتاب سيؤثر على مجمل كتاباتي، الثقافية والفكرية، وعلى فهمي للفلسفة والفكر وللحياة. كتاب أنار لي درب المعرفة، وأحسست بعد سنوات من النتاج الفكري والثقافي، أني مدين كثيرا لجيل دولوز، وخاصة في كتبي الفكرية ومقالاتي. والفضل يعود إليه في فهمي لمتغيرات كثيرة، في مختلف حقول المعرفة، حيث المفاهيم متغايرة، والفلسفة كذلك، ورحت أبحث عن فكر الاختلاف والغيرية، وعن المختلف والمسكوت عنه، ولعل دولوز علمني أنه ينبغي الإصغاء لمن لم يسمع صوته بعد، وإعادة الاعتبار للمهمّش والمقصي والمنسي.

حين كنت في معتقل المخابرات الجوية السورية، منذ نحو عام ونصف العام، كنت أمضي وقتي في تذكر أحداث رواية «البؤساء»، وكانت أحداث الرواية وشخوصها حاضرة معي في الزنزانة الصغيرة، أحسست أني أقرب إلى جان فلجان، لكن تذكري لكلمات دولوز شجعني على فهم صيرورة الثورة السورية، التي تبحث عن شعب المستقبل وأرض المستقبل، ولعل هوغو ودولوز يلتقيان في الدعوة إلى أرض وشعب مفقودين. لا وجود لهذه الأرض، ولهذا الشعب في عالمنا الحالي، على الرغم من أننا لو تفحصنا كتب الفلسفة والأعمال الفنية والأدبية سنقف على قدر هائل من المعاناة، التي تساعدنا على الإحساس بمعاناة الشعب السوري من النظام الأسدي، والفضل يعود إلى الثورة السورية، في جعلنا نستشعر مجيء مستقبل منشود. إنها صيرورة الزمن الآخر الذي لم يأتِ بعد، أو صيرورة الغير، التي لن تتحقق إلا في عالم الأغيار.

* كاتب وباحث من سوريا، له كثير من المؤلفات، منها «أقلمة المفاهيم: تغاير المفهوم في ارتحاله، 2002»، و«الإمبراطورية الجديدة: تغاير المفاهيم واختلاف الحقوق، 2003»، و«الاتجاهات النقدية الحديثة، 2004»، و«الراديكالية الأميركية، 2005»، و«الحرب على العراق ورهانات المستقبل، 2006»، و«أقلمات الفلسفة ومشادات الخطاب، 2010»