بانوراما تاريخية شاملة عن الفلسفة السياسية

فيلسوفان فرنسيان في كتاب موجه لطلبة الجامعات والدراسات العليا

الفيلسوف الفرنسي لوك فيري
TT

«الفلسفة السياسية في عصر الحداثة» كتاب منهجي أكاديمي مشترك للفيلسوفين الفرنسيين لوك فيري وآلان رينو. والأول أصبح مشهورا جدا في فرنسا، بعد أن حل محل سارتر وفوكو وديلوز على عرش الفلسفة الفرنسية. بالطبع هناك آخرون مهمون غيره، ولكنه أبرزهم حاليا. ومعلوم أنه أصبح وزيرا للتربية الوطنية في عهد جاك شيراك. وهذه أول مرة توكل فيها وزارة التعليم إلى فيلسوف. يضاف إلى ذلك أن كتبه الكثيرة ترجمت إلى أكثر من 20 لغة عالمية، وحظيت بنجاح كبير داخل فرنسا وخارجها. وأما الثاني، أي آلان رينو، فهو أيضا فيلسوف معروف، ولكن ليس بحجم لوك فيري زميله في النضال ضد اليسار المتطرف والمراهق فكريا، بحسب وجهة نظرهما، وهو أستاذ الفلسفة السياسية في جامعة السوربون كما أنه مدير المرصد الأوروبي للسياسات الجامعية. وهذا يعني أنه من الأهمية، بحيث إن الاتحاد الأوروبي اتخذه مستشارا له، بل ومسؤولا عن التخطيط لسياساته الخاصة بالتدريس الجامعي.

وقد اشتهر كل من المؤلفين عام 1984 عندما نشرا كتابا صاعقا ضد فلاسفة اليسار المتطرف الذين كانوا يسيطرون على الساحة آنذاك، أي ضد فوكو، وديلوز، وجان فرنسوا ليوتار وجاك دريدا وبيير بورديو وجاك لا كان. واعتبر البعض أن هذا الهجوم الناجح كان لمصلحة اليمين الفرنسي المستنير على طريقة رئيس الوزراء السابق والراحل ريمون بار. ويبدو أن كلا الفيلسوفين كان مقربا منه بشكل أو بآخر.

ولكن يبدو أن فرنسا آنذاك كانت قد ملت من التجريب اليساري والعبث الطفولي لحركة مايو 1968. وأصبحت تنشد الهدوء والراحة والعودة إلى القيم التقليدية الراسخة المتمثلة في احترام السلطة، والعائلة، والزواج، والابتعاد عن الإباحية الجنسية والشذوذ والتطرف في الشهوات والملذات. ضمن هذا الجو تنبغي موضعة مؤلفات لوك فيري وآلان رينو السياسية والفلسفية، يضاف إلى ذلك أنهما من أتباع الفلسفة العقلانية الكانطية لا اللاعقلانية النيتشوية على طريقة فوكو وديلوز. وفي هذا الكتاب الموجّه إلى طلبة الجامعات والدراسات العليا يقدم المؤلفان بانوراما تاريخية شاملة عن الفلسفة السياسية منذ أقدم العصور وحتى اليوم. ولكنهما يركزان اهتمامهما على الفترة المعاصرة بالدرجة الأولى. ونقصد بها فترة الحداثة التنويرية وما تلاها حتى اليوم.

ينقسم الكتاب منهجيا إلى ثلاثة أجزاء وعدة فصول. فالجزء الأول يحمل عنوان: الصراع الجديد بين القدامى والمحدثين. وفيه يتحدثان عن نقد فوكو ودريدا وليوتار وديلوز للتنوير. ولكن قبل ذلك يتحدثان عن نقد أستاذهما الأكبر، مارتن هيدغر، للتنوير ذاته. فهذا الفيلسوف الألماني الشهير هو الذي وجه الضربات الموجعة للتنوير والحداثة التكنولوجية، وإن كان نيتشه قد سبقه إلى ذلك. فنيتشه هو أب الجميع، وهو مدشن نقد الحداثة. قبله ما كان أحد يتجرأ على أن يفعل ذلك. وكان ذلك يعتبر تراجعا عن خط كانط وهيغل اللذين لم يكن يخطر على بالهما إطلاقا التشكيك بالحضارة الحديثة والتنوير.

ويتوقف المؤلفان في الجزء الأول مطولا عند نقد هيدغر للحداثة. وهنا يشتكي الفيلسوف الكبير من هيمنة التكنولوجيا على الطبيعة بل وقضائها على البراءة الأصلية للحياة الطبيعية والإنسانية. والواقع أن نقده كان في محله إلى حد كبير. والدليل على ذلك ظهور أحزاب الخضر أو البيئة مؤخرا. وهي تدافع عن الطبيعة والغابات والمزروعات والأرياف التي أخذت تنقرض بعد دخول أوروبا في عصر الصناعة. ومعلوم أن الشعر أيضا انقرض أو همّش وليس فقط الطبيعة.

وبالتالي فهيدغر يقول لنا: نعم للعلم والتكنولوجيا ولكن بشرط أن لا يسحقا إنسانية الإنسانية، وألا يقضيا على براءة الطبيعة وألا يستأصلا الغابات والاخضرار والأشجار من على سطح الأرض. ومعلوم مدى ارتباط هيدغر بالغابات الرائعة في ألمانيا، خاصة الغابة السوداء التي بنى فيها كوخا لكي ينعزل عن البشر ويكتب ويفكر. وكثيرا ما كان يقوم بنزهات طويلة في أحضان الطبيعة على عادة أستاذه الكبير نيتشه. وهي عادة اشتهر بها أيضا جان جاك روسو.

فالطبيعة هي الأم الرؤوم أو الحنون بالنسبة لنا جميعا، وإذا ما قضينا عليها فإننا نكون قد شوّهنا وجودنا وقضينا على أنفسنا. ثم يردف المؤلفان قائلين: إن أفكار هيدغر هذه كانت قد ظهرت في الثلاثينات أو الأربعينات من القرن الماضي. لكننا لم نفهم معانيها ومغازيها العميقة إلا مؤخرا، بعد أن تلوث الجو وارتفعت درجة حرارة الأرض وكثرت الفيضانات والكوارث الطبيعية هنا أو هناك. وهذا يعني أن الفيلسوف سبق زمنه بـ40 أو 50 سنة على الأقل. وهذه هي ميزة الفلاسفة الكبار؛ فهم يرون أبعد من أنفسهم على عكس الناس العاديين أو المفكرين الصغار.

ثم يتحدث مؤلف هذا الكتاب في الجزء الثاني عن فلسفات التاريخ الكبرى التي ظهرت في الغرب طيلة القرنين الماضيين، أي فلسفة هيغل، وأوغست كونت، وسواهما. ومعلوم أن كل فيلسوف كبير يبلور رؤيا عامة عن التاريخ البشري ومجرى الأحداث ومستقبل الأيام. وأحيانا تصدق هذه الرؤيا وأحيانا يكذبها المستقبل. فنبوءة ماركس مثلا عن حتمية سقوط الرأسمالية لم تصدق ولم تتحقق. ولكن بعض تحليلاته الأخرى كانت صائبة. وقل الأمر ذاته عن نيتشه الذي تنبأ باندلاع الحروب العالمية حتى قبل حصولها بـ40 أو 50 سنة! هذا في حين أن الكثيرين كانوا يعتقدون أن أوروبا أصبحت حضارية تماما، وتجاوزت مرحلة الهمجية إلى غير رجعة، ولن تتقاتل مع بعضها بعد انتصار التنوير العقلاني على الأصولية المسيحية. ولكن بعد موته عام 1900 اندلعت الحرب العالمية الأولى عام 1914، والحرب العالمية الثانية عام 1939.

والواقع أن هناك عدة فلسفات للتاريخ؛ فكل فيلسوف كبير يشكل فلسفته عن حركة التاريخ ومصير الجنس البشري، فجان جاك روسو بلور فلسفته للتاريخ، وقال إن الحضارة الحديثة سوف تصل إلى الجدار المسدود يوما ما، إذا لم يرافق تقدمها المادي والتكنولوجي تقدم أخلاقي وإنساني على المستوى نفسه. وقد صدقت الأيام نبوءته بعد 200 سنة من حصولها؛ فالغرب المتغطرس مأزوم الآن، وأزمته أخلاقية وروحانية بالدرجة الأولى. وبالتالي فنقد الحداثة وانحرافاتها وشططها أصبح أمرا واجبا. والانتقال إلى عصر ما بعد الحداثة شيء مشروع ضمن هذا المنظور، بشرط أن تكون تصحيحا للانحرافات وحفاظا على المكتسبات لا تراجعا عنها. ثم بشرط أن لا تسقط في مهاوي العدمية والنسبوية. والواقع أنه توجد عدة معان لمصطلح ما بعد الحداثة، لا معنى واحد فقط؛ فهناك معنى إيجابي ومعنى سلبي.

الجميع يعترف الآن بأن الحضارة الغربية الحديثة تعاني من أزمة أخلاقية لا مثيل لها. وذلك لأنها لم تعد تهتم إلا بالمنافسات الشرسة المسعورة والتكالب على الصفقات التجارية والربح المادي وتراكم الأموال والرساميل، ونسيت أن الهدف الأساسي للحضارة هو إسعاد الإنسان على هذه الأرض. ونسيت أيضا قيم العدل والحق والإنصاف، وهذا أخطر شيء. وبالتالي فهناك اختلال توازن في الحضارة الحديثة وينبغي تصحيح مسارها لكي تصبح حضارية وإنسانية بالفعل. وهذا الكلام ينطبق على العولمة المتوحشة التي زادت الغني غنى والفقير فقرا.

وهذا ما أدانه جان جاك روسو في عهده وفي عز عصر التنوير فانقلبوا عليه، وكادوا يأكلونه أكلا، ولاحقوه في الأمصار، وأقضوا مضجعه، لأنه قال الحقيقة. ولكنه بقي ثابتا على مبدئه حتى آخر لحظة، قائلا عبارته الشهيرة: «ولذا قررت أن أضحي بنفسي من أجل الحقيقة». ماذا يستطيعون أن يفعلوا به أكثر مما فعلوا؟ يقتلونه؟ ليقتلوه إذن! فلا يوجد أي شيء يحرص عليه أو يتمسك به في هذا العالم، لأنه لا يملك أي شيء أصلا. لقد فضح زيف عصره كله وصفعه بالحقيقة الساطعة. ولم يعد بحاجة لأن يعيش أكثر بعد أن نشر مؤلفاته الأساسية وضرب ضربته الفلسفية الكبرى.

وأصلا إذا كان في حضارة الغرب شيء إيجابي، فإنه يعود له ولكانط وهيغل وبقية المثاليين والرؤيويين الكبار. ومعلوم أن الحضارة الحديثة حققت إنجازات ضخمة لا يُستهان بها كدولة الحق والقانون والتناوب السلمي على السلطة بشكل ديمقراطي، وإعلان حقوق الإنسان والمواطن وحرية الضمير والمعتقد إلخ. وهي المنجزات التي تسعى إليها شعوبنا وتدفع من أجلها الغالي والرخيص من خلال انتفاضات عارمة ضد أنظمة الاستبداد والطغيان. وبالتالي، فإيجابيات الحضارة والحداثة أكبر من سلبياتها، ونقدها لا يعني التراجع عن أفضل ما أعطته، وإنما يعني فقط تصحيح المسار. وهنا ينقسم فلاسفة التاريخ إلى قسمين أساسيين؛ قسم متفائل بحركة التاريخ، وقسم متشائم. وينتمي إلى الأول كانط وهيغل في الماضي، ثم كاسيرر وهابرماس ومؤلفو هذا الكتاب في الحاضر. فهؤلاء يرون أن إيجابيات الحداثة أكثر بكثير من سلبياتها ونواقصها. ولكن ينتمي إلى الاتجاه الثاني المتشائم بحركة التاريخ ومصير الجنس البشري فلاسفة كبار أيضا ليس أقلهم نيتشه، أو هيدغر، أو ميشال فوكو، إلخ.

والصراع بين المتفائلين والمتشائمين لا يزال ساريا على قدم وساق حتى الآن. وفي الجزء الثالث والأخير من هذا الكتاب القيم يتحدث المؤلفان عن نظرية حقوق الإنسان والنظام الحديث في فرنسا وعموم أوروبا، وهنا يدافعان عن الديمقراطية وحقوق الإنسان ضد هجمات الفلاسفة النيتشويين، من أمثال فوكو وديلوز ودريدا وسواهم؛ فهم يرون أن إسقاط النظام الإقطاعي الأصولي القديم كان شيئا إيجابيا جدا، لأنه أتاح إقامة نظام ديمقراطي حديث يساوي بين البشر. وعموما، فهما يستخدمان كانط ضد نيتشه، وهابرماس ضد فوكو. وهنا تكمن إحدى المعارك الفلسفية الكبرى في الغرب المعاصر، ولا أستطيع التوسع حولها أكثر، لأن ذلك يتطلب مجلدات!