لاركن.. شاعر العزلة والوحشة والشيخوخة

دراسة بالإنجليزية للسلطاني تتناوله من منظور جديد

غلاف الكتاب
TT

منذ سنوات أصدر المجلس الأعلى للثقافة بالقاهرة مختارات من شعر الشاعر الإنجليزي المعاصر فيليب لاركن (1922 - 1985) ترجمها إلى العربية وقدم لها الدكتور محمد مصطفي بدوي الناقد والشاعر والزميل بكلية سانت أنطوني بجامعة أكسفورد. وعلى مدى السنين ترجمت قصائد متفرقة للاركن بأقلام عادل سلامة وأسامة فرحات وماهر شفيق فريد وغيرهم، كما كتبت عنه الناقدة المصرية الدكتورة نهاد صليحة، الحاصلة على جائزة الدولة التقديرية للأدب في هذا العام، مقالة عنوانها «شاعر الحزن الغربي» في جريدة الأهرام (20-12-1985).

واليوم يصدر كتاب كامل باللغة الإنجليزية عن هذا الشاعر عنوانه «فيليب لاركن شاعر لا منتم: تجاوز العزلة والجنس والعادي» عن دار «ميرا للنشر» بليدز (2013) من تأليف الشاعر والباحث العراقي فاضل السلطاني.

ويسبق الكتاب تصدير بقلم أمير طاهري يسجل النقاط المشتركة بين لاركن والسلطاني، فكلاهما، كما يقول، «نتاج ثقافة يحتل فيها الشعر مكانا مهما. لاركن يكتب شعرا أشبه بموسيقى الحجرة قوامه لمسات صغيرة، ولحظات عابرة، وومضات استبصار، واقتناص لما هو عابر. والسلطاني، خاصة في قصائده الأخيرة، يبتعد عن النفس الملحمي المميز لكثير من الشعراء العرب في جيله، ويقترب مما دعاه الشاعر الفرنسي رينيه شار «موسيقى الحياة: تلك الموسيقى الصغيرة».

ولاركن، كما يراه طاهري، يقف بمفرده، بعيدا عن يسارية و. أودن من ناحية، كما أنه بعيد عن مسيحية ت.س. إليوت من ناحية أخرى.

أما فاضل السلطاني فكتب في مقدمة كتابه: «إن أعمال لاركن تشكل قصيدة واحدة متطاولة تتناول قضايا كبرى من نوع الجنس والعزلة والذات والانتماء واللايقين والقلق والتردد. إنه لا منتمٍ بالمعنى الوجودي لهذه الكلمة، على نحو ما فصله كولن ولسون في كتابه المشهور (اللامنتمي). إن شعره ونثره ورسائله الشخصية تكشف عن أنه شخصية واحدة متسقة، وهو ليس بالعدمي ولا المتشائم خلافا لما يظنه الكثيرون».

من هذه النقطة يتقدم المؤلف في فصله الأول «تجاوز العزلة» فيورد قول لاركن إن د. لورنس كان مهما بالنسبة له - مثلما كان شكسبير مهما لكيتس - لأن الرسالة التي ينقلها هي أن كل امرئ وحيد. وروايتا لاركن «جيل» و«فتاة في الشتاء» عن لا منتمين يعانون الاغتراب. وقصيدته المسماة «مستر بلليني» عن رجل بلا مال ولا بيت ولا أسرة ولا هوية. وفي لفتة نقدية بارعة يلفتنا السلطاني إلى شبه هذه الشخصية ببطل - أو لا بطل - قصيدة ت. س. إليوت «أغنية حب ج. ألفرد بروفروك» القائل:

«لقد وزنت حياتي بملاعق القهوة إني أعرف الأصوات التي تتبدد عند النهاية تحت صوت الموسيقى الآتية من غرفة بعيدة فكيف تواتيني الجرأة إذن؟».

ولاركن يذكرنا أيضا، كما يضيف المؤلف، ببطل رواية الكاتب الفرنسي هنري باربوس «الجحيم»: ذلك الذي يقضي كل وقته مراقبا العالم من ثقب في جدار غرفته. كما يعقد السلطاني مقارنة مضيئة بين شخصيات لاركن ورواية تورجنيف «آباء وأبناء» ببطلها العدمي بازاروف. ويحلل قصائد لاركن المعنونة «إلى البحر» و«أعراس يوم أحد عيد العنصرة».

وفي الفصل الثاني من الكتاب «تجاوز الجنس» يتوقف السلطاني عند قصيدة لاركن المسماة «نوافذ عالية» وهي قصيدة قصيرة لا تتجاوز خمس مقطوعات ولكنها من أهم قصائده؛ إذ تلخص آراءه في الحب والجنس والشيخوخة والعزلة والحرمان.

ويستخدم السلطاني مفهوم كانط ل«الجليل» (Sublime) في تحليله لقصيدة «نوافذ عالية».

وفي الفصل الثالث والأخير «تجاوز العادي» يحلل السلطاني قصيدة لاركن المسماة «هنا»، كما يحلل قصيدة «ألوان من الغياب» التي تتضمن أصداء من بودلير ورنبو ومالارميه وفاليري من الشعراء الرمزيين الفرنسيين في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين. ويفيد السلطاني هنا من كتاب الفيلسوف الفرنسي ميرلو بونتي عن أولوية الإدراك الحسي. ويقيم تضادا بين شعرية لاركن وشعرية شعراء نيويورك (من أمثال فرانك أوهارا) المتأثرين بويليام كارلوس ويليامز. ويذكر أن لاركن يهاجم الشعر الحداثي لأنه «يبعدنا عن الحياة كما نعرفها». ومن هنا كان تفضيله لتوماس هاردي على و.ب. ييتس (كتب لاركن يوما مقالة عنوانها: «مطلوب ناقد جيد لهاردي»).

ولا يغفل السلطاني، إلى جانب إيراد المعجبين بلاركن، أن يورد آراء النقاد المعادين له. فأندرو دنكان، مثلا، يصفه بأنه شاعر «باعث على الكآبة، بارد، ممل، بلا موهبة أدبية، لم يتمكن قط من أن يكتب قصيدة جيدة». وواضح ما في هذا القول من تعميم جارف وأحكام ظالمة.

والصورة التي يخرج بها المرء من كتاب السلطاني هي أن لاركن كان - إلى جانب تد هيوز - أكبر شعراء بريطانيا في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية. لقد كان لاركن أبرز شعراء «الحركة»، وهي اتجاه نشأ في خمسينات القرن الماضي كرد فعل ضد الرومانسية المسرفة والرؤيوية الجديدة والسريالية المغربة في أشعار ديلان توماس وغيره. ولاركن - كما وصفته واحدة من النقاد بحق - «شاعر غير عادي للرجل العادي»؛ فهو يبتعد عن الحذلقة الثقافية وتعاليم أتباع باوند وإليوت ليكتب عن الرجل العادي في بريطانيا النصف الثاني من القرن العشرين. ونبرته هي نبرة الأعزب الوحيد الحزين (كان لاركن أمينا لمكتبة جامعة هل) الذي يعيش في يأس هادئ، ويرى الحياة تتسرب من بين أصابعه بلا زوجة ولا حبيبة ولا ولد (وإن لم تخل حياته الفعلية من علاقات غرامية وجنسية). هذه هي الصورة التراكمية التي بناها بدواوينه: «سفينة الشمال» (1945)، «20 قصيدة» (1951)، «قصائد» (1954)، «الأقل انخداعا» (1955)، «أعراس يوم أحد عيد العنصرة» (1964)، «نوافذ عالية» (1974)، «مجموعة القصائد» (1988).

ويبرز السلطاني خيط العزلة التي تخيم على مصير الإنسان الحديث في أغلب أشعار لاركن كما في قصيدته المسماة «الحديث في السرير»: «الحديث في السرير كان أخلق به أن يكون أسهل شيء فالرقاد معا هناك يمضي بعيدا شعار لشخصين يستوصيان بالأمانة ومع ذلك فإن الوقت يمر في صمت على نحو متزايد أكثر فأكثر.

وفي الخارج عدم الراحة غير الكامل، عدم راحة الرياح يبني سحبا ويبعثرها في أنحاء السماء وتتكوم بلدات مظلمة على الأفق لا شيء من هذا يكرثه أمرها. لا شيء يبين لماذا على هذه المسافة الفريدة من العزلة يغدو من الأمور الأكثر صعوبة أن نجد كلمات تكون صادقة ورحيمة في آن واحد أوليست غير صادقة وغير رحيمة؟».

على أن في بعض تقريرات السلطاني ما يحتاج إلى مراجعة، ولا نوافقه عليه: كقوله في صفحة 52 إن شعر لاركن لا يقل تعقيدا أو عقلانية عن شعر إليوت وباوند؛ إذ من الواضح لمن له أدنى معرفة بهؤلاء الشعراء الثلاثة أن الأخيرين أعقد وأكثر عقلانية من لاركن بما لا يقاس. كذلك لا تبدو مقنعة مقارنة السلطاني لاركن بالشاعر الويلزي ر. س. توماس على أساس أنه لدى كليهما تتردد كلمات: الانتظار، الغياب، الموت، الإخفاق، المعاناة، الصدى، الظلال، وأن كليهما معني بالوضع الإنساني رغم أن توماس لاهوتي ولاركن علماني. ومع إقرارنا ببراعة المقارنة التي يجريها السلطاني بين قصيدة لاركن «الذهاب إلى الكنيسة» وقصيدة توماس «في الكنيسة»، نرى أن وجه التباعد بين الشاعرين أكثر بمراحل من أي وجه للشبه بينهما.

ويبقى - بعد تسجيل هذه الاختلافات في الرأي - أن الكتاب، كما يقول طاهري بحق، «تحية يزجيها شاعر إلى شاعر على اختلاف الخلفيات والموروث الثقافي واختلاف الأجيال. وهو - إلى جانب ذلك - دراسة أكاديمية موثقة تلقي أضواء على جوانب مهمة من عمل لاركن»، وتحسن الإفادة من أعمال نقاده السابقين مثل لوليت كبي، وأندرو موشن، وأ. تولي، وأنطوني ثويت وغيرهم.

إن هذا الشاعر الإنجليزي المغروس حتى النخاع في تربته المحلية يلوح لنا هنا، بفضل استبصارات السلطاني، شاعرا إنسانيا قريبا من الفيلسوف الدنماركي كركيجارد في خيوطه الوجودية: كاللانتماء وحرية الإرادة والانفصال بين الفن والحياة وبين الذات والآخرين. وبحق نال هذا الكتاب، المؤسس على أطروحة جامعية، تقدير نقاد وأكاديميين بريطانيين رأوا فيه ما يضيف جديدا إلى التراث النقدي المتنامي عن لاركن، ورؤية طازجة له من منظور عربي إنساني.