القراءة في منطقة التحدي

سعد القرش

TT

أختلف عن الكثيرين، حيث لم يكن لنشأتي دور في اهتمامي بالكتب، ربما هو الفضول الشخصي إلى معرفة النهايات: نهايات قصص مسلسلات الإذاعة، وقصص المداحين في مولد النبي، الذي كان يمتد أسبوعا في قريتي، وتستغرق القصة الواحدة الليل كله. لم يكن في دارنا كتاب واحد، ولا وقت للقراءة أصلا في حياة قاسية ليس فيها حد أدنى من الترف.

يعتبر أبريل (نيسان) 1979. بداية طريق كان يفترض أن ينتهي بي إلى مكتب الإرشاد، فقد اشتريت مجلة «الدعوة» الشهرية الناطقة باسم جماعة الإخوان المسلمين، وفي تعريفها أسفل الشعار التقليدي المكون من سيفين متقاطعين يعلوهما المصحف وتضمهما من أسفل، كلمة - أمر «وأعدوا» - و«الدعوة» صحيفة أسبوعية إسلامية جامعة تصدر شهريا مؤقتا، كان يديرها ويشرف عليها: عمر التلمساني. ولا أتذكر الآن متى وقعت المجلة للمرة الأولى بين يدي. ربما استعرتها من مكتبة المسجد وأعجبتني، ولعل أحدا أغراني بالمواظبة على قراءتها، ثم رأيت أن أشتريها، فكانت نواة مكتبة في دار تخلو من الكتب. لا أتذكر الآن، كيف دبّرت القروش القليلة لشرائها شهريا، ولم يكن لي مصروف أدخر منه. قبل ذلك بعامين أو ثلاثة، سمعت من زميل في الفصل الدراسي كلمة «مصروف»، وسألت عن دلالة «المصطلح»، لأنه خارج دائرة إدراكي، ولكني تمكنت من تدبير ثمن المجلة.

بعدها، بدأ اهتمامي بالقراءة، من خارج المنهج الدراسي، يتسلل إليّ، فكانت أول مجموعة قصصية قرأتها في حياتي هي «همزات الشياطين» لعبد الحميد جودة السحار، وفي بعضها وعظ مباشر. شجعتني تلك القصص على كتابة قصة قصيرة عنوانها «الصعود إلى الهاوية»، وفزت عنها بالمركز الأول في المدرسة الثانوية.

وخلال رحلتي مع الكتاب، كان اكتشافي بعد ذلك لنجيب محفوظ ويوسف إدريس، ومن بعدهما يحيى حقي، يغني عن أي كتابة أخرى لا ترضي طموح محب للقراءة، يحاول أن يجد لنفسه سبيلا بجوار ظلال هذه القامات.

في الصبا، تكون المعدة مستعدة لهضم أي كتاب، أو استقبال الكتابة من دون تمييز، وربما بحثا عن هذا التمييز. وفي فترة لاحقة، يكون الوقت محدودا ومحددا بقراءة الأعمال التي تستحق القراءة. من حق الكاتب أن أختبره في رواية أو كتاب، وبعدها أقرر إن كان يستمر معي أو أنصرف عنه. هناك من قرأت لهم رواية طويلة، تزيد على 300 صفحة، من دون أن أتوقف عند جملة، وأغمض عيني وأقول: «الله! كيف كتب هذا الكلام»، وهذه ليست كتابة، هي «كلام كالكلام» كما قال طه حسين، كلام عابر مثل مؤلفيه، لا يستقر في الذاكرة، على عكس أعمال أخرى لا تغادر الذاكرة، وتعيش معي وتطاردني وتدفعني للغيرة أن أكتب مثلها.

تتحداني أعمال كبيرة وراسخة: «بيت من لحم» لإدريس، وثلاثية محفوظ و«الحرافيش»، و«أيام الإنسان السبعة» لعبد الحكيم قاسم، و«فساد الأمكنة» لصبري موسى، و«خريف البطريرك» لماركيز، و«دفاع عن الأدب» لجورج ديهاميل، و«تقرير إلى جريكو» سيرة نيكوس كازنتزاكيس، وغيرها من الأعمال التي تتحول إلى جزء من التاريخ الشخصي.

هناك أعمال أخرى تظل في منطقة التحدي: «عوليس» جيمس جويس، لم أكملها أبدا، أصل إلى ما بعد الصفحة المائة بقليل ثم أتوقف، ثم أعود إليها بعد فترة وأتوقف من جديد، وأشعر أنني سأموت وأنا نادم لعدم قدرتي على قراءتها كاملة.

هناك كتب لم يكتبها مؤلفون محترفون، ولكني أجد فيها جمالا لا يقل عن الإبداع الأدبي، منها «مدونات حول السينماتوغراف» للمخرج الفرنسي روبير بريسون، ومذكرات أو سيرة حياة شارلي شابلن وآينشتين. السير الذاتية عموما، تجد الآن في نفسي هوى مثل كتب التاريخ والروايات وأفلام السينما، ربما عودة إلى فكرة المصائر التي كانت بابا إلى هذا الفضاء الرحب.

بعد رحلة تزيد على ربع قرن مع الكتابة، أثمرت مجموعتين قصصيتين، وخمس روايات، وكتبا في أدب الرحلة وغيرها، أشعر أن أحدا ما سيسألني: من أدخلك إلى هذا العالم؟ وساعتها سأراهن على جديد أحلم بكتابته، وربما أشير إلى روايتي «أول النهار»، وأقول: هذا كتاب يمكن أن أجرؤ على حمله بيميني.