الكتاب الذي قرأني

أميمة الخميس

TT

كانت أرففها شاهقة بموازاة قامتي، التي بالكاد تتهجى الحروف. أغلفتها الجلدية اللامعة وأحرفها المذهبة جعلتاني أظن أن تلك المجلدات تتشارك نسيجا واحدا مع عباءة والدي الموشاة بالقصب.

وأعود أتهجى الأسماء في مكتبة أبي: «تاج العروس»، «العقد الفريد»، «نفح الطيب في غصن الأندلس الرطيب»، «الأغاني». كانت تلك الأسماء تثير حواسي الخمس، وتتخمر في قاع رأسي فأشعر بأنه بإمكاني أن أشمها وألعقها وأسمعها. حضور جليل تخالطه هيبة الأب والكتب التي تهمس بأسرارها له وحده، بينما تباشرني أنا بوجهها الصامت المتحفظ. ولكنها لا تدري أن هذا الصمت كان يثرثر داخلي عن أسرار المفردات المذهبة المتخاطفة في رأسي كالكريات الزجاجية التي صارت لعبتي المفضلة لاحقا بين الأسطر والكلمات.

تلك الكتب لم تصل يدي إلى شاهق ثمارها؛ فهو مرتفع ومتأب... لذا، كنت أكتفي بالمتساقط منها حولي وبالمجلات وأوراق الصحف.. «قافلة الزيت»، و«اليمامة»، والمجلات المصرية، قبل أن تتداركني أمي بمجموعة «المكتبة الخضراء» للأطفال، فتوهجت في أعماقي متع لا تحصى: سندريلا، والليمون العجيب، والبجعات السحرية التي تتحول فرسانا يشبهون الأمراء الذين على أوراق اللعب والغابة ذات الذئاب الكامنة، فكانت «المكتبة الخضراء» هي ثالث ثلاثة أشعلوا مهرجان الألعاب النارية في رأسي مع حكايات أمي، و«السباحين» التراثية التي جمعها عبد الكريم الجهيمان في خمسة أجزاء.

وفي نحو التاسعة، تسللت يدي وقطفت الثمرة التي لم تكن محرمة، لكنها كانت مخضلة ريا بترياق يخالط الوعي ويجعله يرفض الأجوبة القريبة المتاحة التي يمررها له من هم حوله، لأنه يعلم أن هناك بشرا لهم حقائق تتقاطع مع ما آلفه، حقائق قد تكون مدببة ولها أسنان، ولكنها حتما جديدة وطازجة، وتحفني بالدهشة.

وبدأت الكلاسيكيات العالمية: «ذهب مع الريح»، و«قصة مدينتين»، «الأم»، «دكتور زيفاجو». ومن ثم، انعطفت على الأدباء المصريين الذين كانوا يؤثثون أرفف عقلي بالتشويق والمتعة ويرتبون حيرة العالم حولي، ويمررون لي تسويغا وتبريرا لأحلامي الجامحة:

القاهرة: حارات نجيب محفوظ، ومتغنجات إحسان عبد القدوس، فتيات جاردن سيتي، والنائيات في الريف الإنجليزي، الأخوات برونتي، وحول الثلج التي يغوص فيها ديكتور زيفاجو، الترجمات الباذخة التي كانت يقوم بها لبنان تطير بي كل يوم إلى أرض جديدة، ومن ثم يعيدونني سالمة في نهاية النهار، لربما بذهن مفسد يعلم بأن للعالم إجابات أخرى ومتعددة.

لسعة الممنوع اللذيذة، كتب القصيمي، وحديث زرادشت وكراسات قديمة مهلهلة لما ظنه (ماركس وإنغلز) حلا لعذابات البشرية المزمنة.

وإن ظلا من هذا كله (تقرير إلى جريكو) لنيكوس كازنتزاكي و(الكتاب لأدونيس) على مكتبي وبقربي.... يرفضان العودة للأرفف.

تتضخم وتتورم مراجيح المتعة بين الأوراق والصفحات. كانت القراءة لي كجزيرة محيط نائية تنعشني أمطارها وصيحات سعادينها، قبل أن أخضعها للمدنية والانضباط، من يمتشق القلم ويتصدى للكتابة لا بد أن يحمل ترسانة من الكتب وإلا سقط من الجولة الأولى وبات يقرض ويكرر نفسه.

نظمت لي جدولا للقراءة، ما بين فكري وإبداعي، تراثي وحديث، عربي وإنجليزي. أيضا ألتقي ومجموعة من الصديقات ضحى كل سبت لنناقش كتبا معينة فيما يشبه نادي الكتاب. وسمينا مجموعتنا «ضحى الفكر» تحديا للصورة الذهنية عن نؤومات الضحى. التجربة حتى الآن رائعة، فليس أجمل من أن تقرأ الكتاب ليس بعينين فقط، لكن عبر عشرين عين أخرى...

للكتاب في حياتي قصة.. دخلت مرابعه باكرا جدا وبظني أنني سأفتحه وأقرأه.. لأكتشف بعد سنوات طويلة أنه هو الذي قرأني وكتب بقية فصول حياتي.

* كاتبة سعودية. من أعمالها: «والضلع حين استوى» قصص قصيرة، و«مجلس الرجال الكبير» قصص قصيرة، و«أين يذهب هذا الضوء»، قصص قصيرة، و«سمية» (قصة للأطفال)، و«الترياق» قصص قصيرة، و«البحريات»