شارون.. الرجل الذي لا خصال له

وصفه أحد أعضاء حزب الليكود على النحو التالي: «إنه رجل يفتقر إلى المبادئ والمشاعر الإنسانية

حياة آرييل شارون - ديفيد لانداو - دار نشر: «الفرد نوف»، نيويورك، 2014 - 656 صفحة
TT

غالبا ما يُقيم التاريخ زعيما سياسيا بالنظر، ولو لجزء بسيط، إلى توقيت رحيله عن السلطة أو رحيله عن الحياة. وفي هذا السياق، قد يكون آرييل شارون، رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق، استثناء لتلك القاعدة، حيث إنه لم يترك صدارة المشهد السياسي من خلال أي من الطرق المعتادة التي دائما ما تؤرخ لمثل هذا الحدث الكبير في عالم السياسة، كما أنه لم يمت بالطريقة التي يفارق بها معظم الناس الحياة، فقد ظل شارون يحتضر منذ يناير (كانون الثاني) 2006. وعلى الرغم من دخوله في غيبوبة طويلة، بقى رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق على قيد الحياة بيولوجيا طوال تلك الفترة، معطيا بذلك مثالا على القول المأثور الذي يقول إن المحاربين القدماء لا يموتون، إنهم فقط يذبلون.

ويُعد شارون آخر أعضاء «الآباء المؤسسين» لإسرائيل الذي تولى منصب رئيس الوزراء، كما كان أيضا من بين أول من حملوا السلاح في البداية ضد البريطانيين ثم ضد العرب لتحقيق الحلم الصهيوني بإقامة دولة لليهود. وعلى الرغم من تركيزه على سيرة شارون، يبدو هذه الكتاب الجديد أيضا سردا لمراحل ظهور إسرائيل كدولة، فضلا عن الأحداث الدرامية التي تركت طابعا على ستة عقود هي عمر تلك الدولة منذ قدومها إلى الوجود.

يبدو ديفيد لانداو في وضع جيد يمكّنه من سرد قصة شارون وإسرائيل؛ فهو صحافي إسرائيلي من أصل بريطاني، وهو ما يجعله مطلعا على بواطن الأمور، وقادرا على فهم عقلية الناس مثل شارون. وفي الوقت ذاته، يُعد لانداو مستقلا بما يكفي ليكون قادرا على الحكم على شارون، وعلى إسرائيل ككل، بشكل موضوعي.

أثناء تصفح ألبوم صور شارون السياسية التي يعرضها لانداو في كتابه، يصادف المرء درجة كبيرة من التنوع داخل تلك الأحداث التي تبدو متشابهة. وأول ما يصادفك على صفحات الكتاب هو شارون عندما كان صبيا في مجتمع «الكيبوتس»، وقد هاجر والداه من بيلاروسيا إلى إسرائيل بحثا عن حياة أفضل ومكان أكثر أمنا. كان آرييل فتى سمينا ومشاكسا، لكنه في نهاية المطاف كان ابنا مطيعا غير ذي مواهب يمكن ملاحظتها بسهولة. ومع تعمقنا في صفحات الكتاب، نرى شارون عندما كان شابا ينضم إلى الجماعات المسلحة السرية للقتال من أجل إقامة دولة إسرائيلية، في حين كان يراوده طوال الوقت الحلم بأن يصبح مزارعا. بعد ذلك، نجد شارون يشترك في الحرب الأولى ضد العرب في عام 1948، وهو الحدث الذي جعله يقتنع بأنه وُلد ليكون جنديا محترفا. وبحلول عام 1956، أصبح شارون هو النجم الصاعد للجيش الإسرائيلي بفضل «الأداء الرائع» الذي قدمه في الحرب ضد مصر بسبب قناة السويس. ثم بعد ذلك وحسبما يسرد لانداو، لعب شارون «دورا حاسما» في حربي 1967 و1973 ضد جيران إسرائيل من العرب. واقتداء بالسنّة التي وضعها جنرالات إسرائيل الأوائل، دخل شارون السياسة، وتدرج في المناصب حتى تولى منصب وزير الدفاع، وكان هو الرجل المسؤول عن غزو لبنان في عام 1983.

ومن بداية الكتاب وحتى نهايته، يعرض لانداو مسيرة شارون السياسية، في صورة تمتزج فيها المناطق المضيئة بالمناطق المظلمة. ففي بعض الأوقات، كان شارون دائما هو الجنرال الذكي القادر على استغلال أقل الفرض وتحويلها إلى نجاح عظيم. بينما في أوقات أخرى يظهر الجانب المظلم من شخصية شارون التي تجعل الإسرائيليين غير مرتاحين لذلك الرجل.

ويبدو واضحا في ثنايا الكتاب أن لانداو ليس معجبا بشارون على المستوى الشخصي. غير أن أفضل ما عرضه لانداو هو إعجاب على مضض برجل كتب نهاية غير متوقعة لدراما مسيرته السياسية الحافلة بالأحداث المتنوعة. غير أنه ينبغي أن نتأمل اثنتين من الحقائق المهمة.

شارون هو الجنرال الإسرائيلي الكبير الوحيد الذي حظي بدعم وإعجاب غالبية كبار الشخصيات في تاريخ إسرائيل. فقد تدخل ديفيد بن غوريون أكثر من مرة لتعزيز مسيرة شارون وحمايته ضد كثير من خصومه، كما أحب ليفي أشكول وغولدا مائير آرييل شارون كثيرا. وكان مناحيم بيغن دائما على استعداد للتغاضي عن ولع شارون بتجاهل كثير من القواعد والقوانين. أما موشيه ديان وإسحاق رابين فقد كانا من ضمن الجيل الأقدم من كبار الشخصيات الإسرائيلية الذين كانت لديهم نقطة ضعف تجال «آرييل السمين».

وقد كان كثيرون ممن يلتقون شارون صدفة ينادونه «اريك» كنوع من إظهار الحب له. فقد كان شارون بالنسبة لهم هو ذلك الشخص الممتلئ الجسم، ولا أقول المدلل، الذي يبدو طيبا لينا في أحيان كثيرة، وشرسا شديدا في أحيان أخرى.

وتبقى قدرة شارون على كسب إعجاب وحب كثير من السياسيين والجنرالات الماكرين لغزا لم يكن باستطاعة لانداو شرحه. كما أن لانداو لم يوضح لنا كيف ولماذا تحول كثير من الزعماء العرب من كره شارون إلى الإعجاب به على أقل تقدير. فقد أقام علاقة صداقة، بقيت في السر إلى حد ما، مع الرئيس السوري حافظ الأسد. وكان شارون يؤمن بأن وجود الأسد على رأس السلطة في سوريا في عام 1973 «فرصة ذهبية لإسرائيل». كما كان شارون يدعو إلى تحول المملكة الأردنية الهاشمية إلى «دولة فلسطين» التي طالب كثيرون بإقامتها، إلا أنه تخلى عن تلك الفكرة وأقام علاقة صداقة قوية مع الملك حسين. كما كان الرئيس المصري أنور السادات معجبا بشارون على الرغم من أن الجنرال الإسرائيلي استطاع في عام 1973 العبور بقوة عسكرية إلى الشاطئ الغربي من قناة السويس. وخلال عمله وزيرا للزراعة، قام شارون بعدة زيارات لمصر حيث كان دائما ما يلقى ترحيبا من السادات.

وقد فعل شارون ما يراه غالبية الإسرائيليين مشابها لجريمة «العيب في الذات الملكية» عندما صرح علنا بأنه ينبغي على إسرائيل، إذا ما اقتضت الضرورة، أن تخوض الحرب من دون استشارة الولايات المتحدة، حيث قال شارون: «لا يمكن لأي أمة أن تعيش إذا ظلت خاضعة للآخرين، حتى إذا كانت قوى عظمى». وعلى الرغم من ذلك، كان شارون الفتى المدلل للمؤسسة السياسية الأميركية، كما أنه أقام علاقة قوية استثنائية مع الرئيس جورج دبليو بوش.

إلا أنه، وعلى مدى عقود، ظل شارون الشخصية الأكثر جدلا، وربما، بعبارة أكثر لطفا، الشخصية السياسية - العسكرية الإسرائيلية الأقل جذبا للإعجاب. كما لم يتقبل جميع الإسرائيليين صورة شارون على أنه «الجندي المخلص» أو «راعي المصالح اليهودية في شتى أنحاء العالم»؛ يقول يوسي بيلين، أحد المحسوبين على زعيم حزب العمل المخضرم شيمعون بيريس: «شارون هو الإسرائيلي القبيح، كما أنه رجل خطير».

حتى أصدقاء شارون كانوا دائما منزعجين لما أدركوه عنه من فقدانه لعامل تأنيب الضمير. ولهذا السبب فقد وصف أحد أعضاء حزب الليكود شارون على النحو التالي: «إنه رجل يفتقر إلى المبادئ والمشاعر الإنسانية، كما أنه لا يؤمن بأي معايير أخلاقية، مهما كانت».

عندما احتلت أنباء المذابح التي حدثت في صبرا وشاتيلا صدر الصفحات الأولى للصحف، احتشد أكثر من 400 ألف إسرائيلي في قلب تل أبيب مطالبين بمحاكمة شارون لارتكابه «جرائم حرب»، وقد جاء ذلك في أعقاب ما أقرت به «لجنة كاهان»، التي جرى إنشاؤها للتحقيق في المذابح، من أن شارون يتحمل «المسؤولية الشخصية» عن تلك المذابح.

ويشكك كثيرون من منتقدي شارون في اتباعه لتعاليم الديانة اليهودية، حيث إنه لم يكن ينزعج كثيرا من كون الطعام الذي يتناوله مطابقا لأحكام الشريعة اليهودية أم لا، ولم يكن أيضا يهتم كثيرا بالشعائر الدينية، بالإضافة إلى أنه كانت لديه ثقافة ضحلة للغاية عن الشخصيات المهمة في الميثولوجيا الإسرائيلية.

وعلى الرغم من ذلك، كان شارون دائما ما ينجح في الوقوف على الجانب الصحيح من الأحداث. فقد رفضت أرفع السلطات القضائية في إسرائيل نتائج التقرير الذي أعدته «لجنة كاهان» عن مذابح صبرا وشاتيلا. كما فشلت كثير من المحاولات للإيقاع بشارون في قضايا فساد، التي نجحت مع كثير من قادة إسرائيل البارزين، من بينهم إسحاق رابين وإيهود أولمرت وبنيامين نتنياهو.

وينظر كثير من الإسرائيليين إلى شارون على أنه صاحب فكرة المستوطنات اليهودية التي حولت الضفة الغربية إلى نسخة جيوسياسية مشابهة لقطعة من الجبن السويسري، حيث تتناثر المستوطنات في الضفة الغربية كما تتناثر الثقوب على قطعة من الجبن السويسري. وعندما تولى منصب وزير الإسكان، شق شارون طريقه وسط الأراضي الفلسطينية، حيث قام بتسريع العملية التي أدت إلى توطين نصف مليون يهودي في المناطق التي أُطلق عليها مصطلح «الأراضي المتنازع عليها».

وطوال مسيرته السياسية والعسكرية، لم يتوقف شارون أبدا عن مفاجأة أصدقائه وخصومه على حد سواء. فقد ترك حزب الليكود، الذي كان بمثابة الحاضنة السياسية التي شكلت وجدانه، ليقوم بإنشاء حزب «كديما» (أو المستقبل حسبما تعنيه الكلمة باللغة العبرية) حتى يحقق سياسته الجديدة التي أطلق عليها «خطة فك الارتباط»، والتي كانت تقضي بانفصال جيوسياسي تدريجي، لكنه ودي، بين إسرائيل والفلسطينيين. وقد جرى تنفيذ المرحلة الأولى من تلك الخطة في قطاع غزة، عندما جرى تفكيك جميع المستوطنات الإسرائيلية هناك. ولدهشة كثيرين، لم تتسبب تلك الخطة في نشوب حرب أهلية إسرائيلية، حتى ولو على نطاق ضيق في غزة. ويعرض لانداو شهادة ودلائل كثيرة على أن شارون كان جادا في تطبيق الخطة نفسها في الضفة الغربية، مع استثناء بعض المستوطنات اليهودية من القدس الشرقية من تلك الخطة.

ومع تصوير نفسه بأنه رجل سلام، تحول النموذج الإسرائيلي الأمثل لـ«داعية الحرب» إلى محبوب نشطاء السلام الذي نظموا نحو 150 ألف مظاهرة حاشدة دعما لاستراتيجية «فك الارتباط».

ومن خلال سرده لقصة رجل واحد، يعرض لنا لانداو قصة مفصلة وجديرة بالقراءة عن واحدة من أحدث الدول القومية الناشئة في العالم، وربما الدولة الواحدة التي يبقى حق ظهورها إلى الوجود موضع جدل بين كثيرين حول العالم.