أسرار اليمين واليسار والفساد الدبلوماسي في مذكرات سياسي مصري

رفعت السعيد: جمال عبد الناصر مول الحملة الانتخابية لسلفادور الليندي بخمسة ملايين دولار

TT

اعترف بأنني كثيرا ما انظر بعين الشك الى المذكرات التي يكتبها السياسيون الذين كانوا يوما ما في سدة السلطة، واقرأها مفترضا ان كتابها مجرد «متهمين» امام محكمة التاريخ، وان هذه المذكرات مجرد «دفاع» عن اصحابها امام هذه المحكمة، وان ما فيها من التمويه والادعاء والتبرير واحيانا الكذب، امر قد يكون مفهوما، واحيانا مشروعا، ممن غربت «شمس السلطة» عنهم، واصبحوا مسؤولين وسياسيين «سابقين»، لا يجدون من الناس الا الاهمال والنسيان.. واحيانا الشماتة والاحتقار.

نعرف طبعا ان المذكرات الشخصية للسياسيين السابقين تمثل، رغم كل الشبهات التي تقلق امثالي، مصدرا، قد يكون اساسيا من مصادر التاريخ، وخصوصا اذا تصادف وكان صاحبها من متخذي القرارات المفصلية في تاريخ شعب ما، او احد شهود العيان على عملية اتخاذها.

ونعرف ايضا ان ندرة الوثائق التي تفرج عنها السلطة في بلادنا، حتى بعد مرور عقود طويلة على الاحداث التي توصف بانها جليلة في تاريخنا (لم تفرج دولة عربية واحدة عن وثيقة واحدة تتعلق بحرب فلسطين عام 1948، ولا عن وثائق حروب 56 و67 و1973، وما نعرفه عنها هو ما كشفته الوثائق التي افرجت عنها الدول الاجنبية بما فيها (اسرائيل)، واصبحت «المصادر الاجنبية»، مثل الوثائق البريطانية والاميركية، هي المصدر الرئيسي المعتمد في دوائر المؤرخين المحترفين، لكتابة فصول تاريخنا الحديث، والوسيلة شبه الوحيدة لالقاء بعض الضوء على جوانبه المظلمة.

لكن الوضع يختلف اختلافا جذريا بالنسبة لهذه المذكرات. فمؤلفها لم يكن مسؤولا حكوميا سابقا، ولم يكن يوما قريبا «جدا» بما يكفي من دوائر السلطة. صحيح انه نجم اليسار المصري بلا منازع، ومنظره السياسي بلا قرين، وربما قائده الحقيقي الذي يبرز عند الملمات (اقصد فترات اصطدام اليسار بالسلطة)، لكنه ايضا مؤرخ محترف، وهو احد كتاب «التاريخ اللارسمي» لمصر، بهامشييها وقواها السياسية المهملة، وتاريخها الاجتماعي والسياسي الذي سكت عنه مؤرخو المؤسسة الرسمية طوال القرنيين الماضيين.

لذلك كله انتظرت ردحا ليس قصيرا من الزمن حتى اكتملت فصول هذا الكتاب، الذي صدر الجزء الثالث منه اخيرا. الكتاب اسمه «مجرد ذكريات»، وصدر في ثلاثة اجزاء منجمة عن دار المدى بدمشق، في طبعة من الحجم المتوسط، وباغلفة مغرقة في التجريد.

والمؤلف هو السياسي اليساري رفعت السعيد عضو مجلس الشورى الذي اشتهر بحربه الشرسة على «الارهاب والفساد». والكاهن المرجعي لليسار المصري، وحكيمه الذي يدري بتفاصيل خرائطه وفصائله، وقواه، وكوادره، وسياساته واطروحاته المتنوعة، ومؤرخه الذي لم يترك صغيرة ولا كبيرة في تاريخ اليسار المصري منذ اواخر القرن الـ18، الا احصاها او الم بطرف منها.

* من هو رفعت السعيد؟

* الاجابة عن هذا السؤال استغرقت من المؤلف ما يزيد على الف صفحة من الحجم المتوسط، لكي يحكي بحنكة المؤرخ المحترف، الذي يعرف ان «التاريخ هو علم التعرف على الاشياء الجديرة بالمعرفة، والتي وقعت في الماضي»، ليحكي تفاصيل حياته الشخصية مختلطة بتفاصيل الاوضاع السياسية والاجتماعية والثقافية والصحافية لمصر، بطبقاتها الاجتماعية وقواها السياسية المشروعة والمحجوبة عن الشرعية، بسلطتها ايام الملكية (قبل 1952)، ومشاركته، وهو لا يزال تلميذا يلبس «الشورت» في مظاهرة عام 1948 هاتفا:

فلسطين بايعناك وبالارواح نفديك وعين الله ترعاك وشباب النيل يحميك ثم دخوله المبكر، وهو بالشورت ايضا، لصفوف الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني ـ حدتو التي كانت بمثابة اكبر تنظيم يساري تشهده مصر في تاريخها، من حيث عدد الاعضاء من العمال والفلاحين والمثقفين، والتي قادت خلاياها مظاهرات 46 الشهيرة. ويحكي ايضا قصة اعتقاله، عندما لم يتجاوز عمره 16 عاما ليصبح اصغر معتقل شيوعي في تاريخ مصر، وربما المنطقة العربية كلها. بعدها اصبح رفعت السعيد زبونا شبه دائم للمعتقلات السياسية في عهد الملكية وايام عبد الناصر ثم السادات. لكن اطول فترة قضاها السعيد في السجون السياسية كانت في الستينات (خمس سنوات وبضعة اشهر)، لانه رفض توقيع ورقة تقول: «انا المعتقل فلان اؤيد الرئيس جمال عبد الناصر»، وهو خطاب وقعه اغلب معتقلي الاخوان المسلمين، لكن رفض المعتقلون الشيوعيون توقيعه بشده لانه «مهين»، رغم ان اغلب الشيوعيين وقتها، وياللغرابة، كانوا يؤيدون اجراءات عبد الناصر الاجتماعية (مجانية التعليم، التأميم، الاقتراب من المنظومة الاشتراكية، وبناء الصناعة الوطنية.. الخ).

وبعد ايام السجن الطويلة والعصيبة، التي عجنت عوده، ووسعت من افقه، ومنحته خبرة نادرة بالبشر، يبدأ رفعت السعيد رحلة طويلة اخرى، في «عالم السياسة.. والبيروقراطية.. والتآمر»، حيث اختاره خالد محيي الدين، بدون سابق معرفة مديرا لمكتبه، وقت ان كان خالد رئيسا لمجلس ادارة مؤسسة «اخبار اليوم» التي كانت على الدوام، وياللمفارقات الناصرية، وكرا من اوكار اليمين المصري، وعرينا لاصدقاء اميركا ورجالها من كبار الصحافيين.. وصغارهم.

وعن تجربته كمدير لمكتب خالد محيي الدين، يكتب السعيد عن هذه الفترة التي تثير العجب، لدى البعض والضيق لدى الكثيرين، والسبب يعود الى «تدني كرامة مهنة الصحافة، لتصبح مجرد رديف للسطة، وصدى من اصدائها»، يقول: «وكل صباح ومساء يتمدد امامي بريد رئيس مجلس الادارة.. وهو بريد غريب، اسرار، فقط تقرأ، وليس مسموحا لك ان تقول او تهمس، ففي قمة «اخبار اليوم» تقليد غريب ابتدعه مصطفى امين، وهو ان محرريهم، واخطبوطهم المنتشر في مختلف الوزارات والادارات واقسام البوليس والمأذونين الشرعيين، وكل ما يخطر على البال او لا يخطر من مصادر المعلومات، كان مطلوبا منهم في حالة الحصول على معلومة سرية، حتى ولو كانت شخصية صرفة، سواء كانت تمس سياسيا او ماليا او اخلاقيا، او اي شيء يمكن ان يكون محلا للثرثرة، او مثارا للاهتمام، تدون في ورقة تغلق ويكتب عليها «للعلم» وتعني انها ليست للنشر.

وتتراكم مظاريف «للعلم» امامي لتقدم كل يوم عشرات ومئات المعلومات المثيرة للدهشة والاستغراب، والتي اعتاد مصطفى امين ان يتقرب بها من عبد الناصر..».

* آلام النضج

* وبعد السجن والعمل السياسي السري والعلني، والوظيفة التي تقع على تخوم قمة السلطة، والتي تفتح الباب لاسرار تكشف عن مكامن صلابة «الحكم الناصري»، ومكامن ضعفه.. ملامح مدى اخلاقية بعض نجومة ولا اخلاقية البعض الآخر، ومسألة «الاخلاق الشخصية» لم تنفصل قط عن «الاخلاق السياسية» لدى رفعت السعيد، رغم شهرته المدوية بأنه من براجماتيي اليسار المصري الكبار.

بعد ذلك كله يأتي «الفصل الدولي» او الاممي في حياة السعيد السياسية والشخصية، حيث اصبحت شخصيته السياسية اكثر نضجا وعمقا وثراء بالخبرات السياسية والانسانية العريضة، التي اكتسبها في السجن وفي اتون النضال السياسي السري والعلني.. والاخطر من ذلك كله «قرب قمة السلطة».

ومن خلال مجلس السلام المصري، ومجلس السلام العالمي جاب رفعت السعيد على مدى الستينات وردحا ليس قصيرا من السبعينات اهم عواصم العالم، حيث تعرف وتفاعل «وتصارع احيانا» مع كثيرين من دهاقنة المكر السياسي، واساطين الدهاء الآيديولوجي، وكبار ثوار «اليسار العالمي» في الشرق والغرب والشمال والجنوب. ومن بين هؤلاء كان سلفادور الليندي، رئيس تشيلي، الذي كان اول رئيس اشتراكي يفوز في انتخابات ديمقراطية حرة في أميركا اللاتينية، والذي قتل في انقلاب دموي شهير قاده قائد حرسه الجمهوري الجنرال اوغوستو بينوشيه عام 1973، بدعم من المخابرات الاميركية. يقول رفعت السعيد في فصل من اجمل فصول الجزء الثاني من مذكراته: «لقد كان التعارف مع سلفادور الليندي قديما، ان كان مناضلا عاديا في صفوف حركة السلام. دوما كان يحضر الاجتماعات، ودوما كان يتحرك صحبة بابلو نيرودا شاعر تشيلي العظيم.. بابلو الشيوعي، وهو اشتراكي، وكانا صديقين وحليفين».

وبصراحة تهتك اسرار الفساد «الدبلوماسي» وقتها يحكي السعيد: «اصبح الليندي رئيسا، ووجه الدعوة لاصدقائه القدامى لعقد اجتماع لرئاسة مجلس السلام العالمي بسانتياجو. اثناء الاجتماع اقترب مني شخص مصري لا اعرفه ،سألني: حضرتك فلان؟ قلت نعم. قال: خللي دول معاك، ودس في جيبي لفافة كبيرة. انزعجت.. فانا لا اعرف الرجل. وفي دورة المياه فتحت اللفافة واكتشفت انها نقود تشيلية.. توجهت للرجل قال انه دبلوماسي مصري.. واضاف: حرام تغير فلوسك في البنك، نغيرها لك في السفارة، الدولار بستين بيزو، اي انك تستطيع ان تشتري بدلة من احدث طراز بدولارين.. اوجاكت شمواه بدولار واحد».

ويستطرد السعيد كاشفا عن سر سياسي لم يسمع به احد من قبل: «لاحظت ان السفير المصري يستمتع بعلاقة حميمة مع الليندي، وقفنا نحن الثلاثة طويلا، وتحدث الليندي بشكل حميم مع السفير المصري، وفسر لي السفير الامر هامسا، عبد الناصر اسهم بخمسة ملايين دولار في تمويل حملة الليندي الانتخابية.. وذات السفير هو الذي سلم المبلغ للرجل الذي اصبح رئيسا».

اما الجزء الثالث في الكتاب فيتناول قصة نشأة حزب التجمع التقدمي الوحدوي ـ حزب اليسار المصري، ومراحل تطوره منذ ايام المنابر، واصطدام السادت به او اصطدامه بالسادات، ومحاولة اطراف داخل السلطة الساداتية، خصوصا اجهزة الامن في الايقاع بين الحزب الذي يرأسه خالد محيي الدين منذ نشأته وحتى اليوم، وبين زميله في الضباط الاحرار انور السادات الذي اصبح رئيسا للجمهورية. ويكشف السعيد عن «البصاصين والمخبرين الذين تسللوا الى صفوف الحزب للايقاع بين فصائله المتنوعة» من جهة و«تنوير السلطةالسياسية والامنية بما يجري في صفوفه.. ربما حتى اليوم».

* «مجرد ذكريات» (ثلاثة أجزاء)

* المؤلف: رفعت السعيد

* الناشر: دار المدى (دمشق)