مخرج يمارس التحريض الفكري

دراسة جمالية وتاريخية في كتاب يوسف شاهين.. حياة السينما

TT

آخر لقاء بين الكاتب والناقد وليد شميط والسينمائي يوسف شاهين كان عام 1999 عندما حاوره عن فيلمه الاخير ـ في ذلك الوقت ـ وهو فيلم طرح فيه مأزق العولمة ورؤية الآخر لنا ورؤيتنا وتعاملنا معه. وفي ذلك الوقت لم يكن شاهين قد أنجز آخر افلامه وهو «سكوت ح نصوّر».

في هذا الحوار ترك شميط ليوسف شاهين فرصة التعبير بلغة اخرى غير لغة الكاميرا عما وراء افكاره وآماله التي عبر عنها خلال ما يقرب من نصف قرن في السينما العربية من وراء الكاميرا واحيانا أمامها. وها هو شاهين يجيب على سؤال يطرحه شميط، عن مخاطر العولمة فيقول:

«المخرج لا يكتفي بمراقبة ما يجري لكي يتحرك، وانا امارس التحريض الفكري، فالرأي يجب ان يحرك ويحرض الآخر، سلبا او ايجابا». وفي هذا الحوار القصير والمكثف، والذي يعد واحداً من حوارات عديدة حول افلام شاهين، ضمنه شميط الفصل الثاني من كتابه «يوسف شاهين/حياة للسينما» أتيح للمخرج الذي ما يزال يشكل ظاهرة والتباسا في السينما العربية، ان يتحدث عن افكاره واحلامه واخطائه ايضا، فيما افرد الكاتب الفصل الاول من كتابه لدراسة طويلة ومفصلة عن شاهين، المؤلف والمفكر والسينمائي والمشاغب في الحياة والسينما على السواء.

وفي هذه الدراسة، لم يُعّد شميط كتابه حسب المنهج المعروف والسائد في النقد السينمائي، كأن يتناول الحديث عن الفكر، ومن ثم التقنيات وأسلوب الاخراج والاضاءة... الخ. فهذا هو عالم الفن السابع المعروف، بلغته وتقنياته السائدة، اما يوسف شاهين فهو عالم آخر، انه التاريخ الذي يتواءم مع المرحلة، يلتصق بها ويحسها ويعيشها ويترجمها. لكنه في كل هذا ايضا لا يقف موقف المتفرج او المراقب، بل هو غائص في همومها وقضاياها واحلامها واخطائها ايضا، ولهذا يركز شميط في تناوله لأفلام شاهين على اهم الافلام التي عبر عنها عن مرحلة صاخبة في التاريخ العربي وهي: «الارض» و«العصفور» و«الاختيار» و«عودة الابن الضال»، ولا ينسى ان يشير بين الصفحات الى ما يعتبر، خطأ النقد والنقاد الذين اوسعوا شاهين لوما ورفضا، معتبرا بعضهم ان لغته السينمائية معقدة، ومدينا بعضهم الآخر شاهين باساءته للقضايا الكبرى وخاصة قضية اليسار المصري (فيلم عودة الابن الضال). ويرى شميط ان شاهين قد انفعل بأحداث كبرى كانت وراء فكرة ولادة افلامه، ففي «صراع في الوادي» كانت هناك فكرة الإقطاع التي قضت عليها الثورة المصرية في ما بعد، وفي فيلم «باب الحديد» كان يدافع عن الطبقة الفقيرة والمسحوقة والمهمشة، وفي فيلم «الناصر صلاح الدين» و«الوداع يا بونابرت» كان دافعه المواجهة الحضارية، ليس بين العرب والصليبيين في معاركهم فحسب، بل بما تحمل هذه المواجهة من مغزى تاريخي، وبما تعنيه الهيمنة للقوى المعتدية والمغتصبة. اما في فيلم «العصفور» وقد شاركه في كتابة السيناريو لطفي الخولي فكان يحاول ان يجسد مشاكل ودافع شعب سيواجه الهزيمة، فيما تحدث في «عودة الابن الضال» عن عودة الرأسمالية، وهكذا في كل فيلم من افلامه اللاحقة، هناك فكرة وواقع وانفعال هو انفعال الفنان الموجود والذي يريد ـ كما اكد في حواراته في القسم الثاني من الكتاب ـ ان يسأل ويصرخ ويعلن ويحرض ولا يقف متفرجا او معبرا ببرود وحيادية. ولعل من ابرز واهم ما باح به لمؤلف الكتاب، قوله في حوار معه عن فيلمه «اسكندرية كمان وكمان»: «انا لا اعجب بنفسي واقول يا سلام انا جدع وفاهم. بل ابحث عن كل الثغرات عندي وأعامل نفسي بدقة. احاول ان ارى سلبياتي أنا، قبل سلبيات الآخرين، واسأل: هل لي ان اتغلب عليها؟! اطرح هذا السؤال من خلال النقد الذاتي».

* أفلام بلا معنى..

* يبدأ شميط كتابه بعنوان يختصر فيه محطات رئيسية في رحلة شاهين السينمائية، وهو: من الالم الى الوعي الى الالتزام، حيث يتناول الفترات التاريخية التي عاشها هذا السينمائي منذ معاناته الخاصة والعامة قبل مرحلة الثورة والاستقلال في مصر الى الحالات العربية التي جثمت فوق فضاء البلدان العربية، ابتداء من النكسة، مرورا بثورة الجزائر وحرب لبنان والقضية الفلسطينية وازمات وتداخل وتشابك ما عرف بالأحزاب الطليعية العربية. وفي هذه الدراسة يصحب الكاتب قارئه في رحلة ممتعة بالصور، يتذكر فيها افلام شاهين، حيث اختار لقطات معبرة وذكية من افلامه، دون ان يغفل عن الارهاصات التي ساهمت في تكوينها والاجواء السياسية والاجتماعية التي رافقتها، ثم الدور الذي ارادت ان تلعبه ومدى نجاحها واخفاقها فيه.

ورغم ان الكاتب يغلف كلماته وآراءه بمحبة تكاد تكون احيانا متحمسة للمخرج، الا ان ذلك لم يبعده، عن الموضوعية وهي ما املت عليه الاشارة الى افلام قدمها شاهين ولم تكن بمستوى اعماله السابقة او اللاحقة، بل كانت انفعالية او متسرعة او حتى بلا معنى، مثل فيلم «فجر يوم جديد» الذي حاول فيه ان يعرض بعض ملامح التحولات الاجتماعية في مصر، او «بياع الخواتم» الذي ظل لوحة فنية جميلة ابرز ما فيها صوت فيروز واجواء الموسيقى الرحبانية، و«رمال من ذهب» الذي كان المهم فيه عودة الفنانة فاتن حمامة للعمل مع المخرج الذي حقق لها في الماضي فيلمها وفيلمه أيضا الشهير «صراع في الوادي».

* لمن هذا الكتاب؟

* ويصر الكاتب على القول بأن سبب اخفاق او تراجع او ضعف بعض افلام شاهين يرجع الى الاوضاع السياسية ووضعه الشخصي داخلها او على حوافها، فهذا الفنان المشاغب لا يستطيع ان ينسى تاريخه الخاص. بل هو يعيش هذا التاريخ بصخب كبير ليعبر عنه وعن تناقضاته وانفعالاته، وهو لا يخجل من اسراره بل يؤكدها ويعرضها وقد يدافع عنها احيانا، كما فعل في افلام «اسكندرية كمان وكمان» و«حدوتة مصرية» وغيرها، ولأنه لا يستطيع ان ينسى نفسه فهو يعتبرها مختبرا ومصفاة للأوضاع السياسية والاجتماعية ولهذا، تأتي افلامه وكأنها حلقات لتاريخه الشخصي وتاريخ المرحلة العربية الحديثة على السواء.

ربما في هذا لا نستطيع ان نضع هذا الكتاب في خانة الكتب السينمائية النقدية فحسب او حتى في خانة الكتب التي يمكن ان تكون بيبلوغرافيا لشخصية معروفة، بل هو كتاب عام، يمكن ان يفيد المتخصص كمرجع لأفلام شاهين وتواريخها وظروف انتاجها، كما يمكن ان يمتع القارئ العادي الذي يحب ان يعرف اكثر عن السينما بشكل عام ويقرأ عن الافلام التي تركت بصمة واضحة في تاريخ السينما العربية.

وربما تكون مآخذنا على الكتاب انه لم يعن بكواليس العمل الاخراجي ليوسف شاهين، خاصة ان شميط احد القلة الذين تابعوا هذا المخرج وغيره، وكان قريبا من الكواليس وخفايا الاعمال السينمائية وظروف انتاجها. وكذلك التنبيه الى نقاط الضعف الفنية في بعض افلام المخرج وما يقابلها من قوة في قدرته على تحريك المجاميع، وكذلك مقارنات بين افلامه وبعض زملائه من مجايليه وبشكل عام يبدو ان الكاتب فضل ان يروي دراسة ادبية وجمالية وتاريخية لرحلة شاهين الصعبة والوعرة، اكثر منها دراسة سينمائية تهتم بتقنيات العمل السينمائي، وقد اجاب وليد على ملاحظتي عندما اعلنتها له قائلا، انه يرى في شاهين صورة المؤلف السينمائي الذي يملك لغته الخاصة المتكاملة، والتي يعبر عنها بالفكرة والمشهد والشخصية والسيناريو، فهو مؤلف لمعظم اعماله. اما لغة الكاميرا بمعزل عن هذا، فهي في نظر شميط من اهتمام النقد الذي لا يحبه ولا يعترف به ايضا.