جسر من الخيال إلى التاريخ!

أمير العمري

TT

جاءت القراءة قبل الكتابة، بل وقبل كل شيء، فهي المبتدأ، وبعدها يأتي كل شيء.

رحلتي مع القراءة بدأت مبكرا، فكنت وأنا في التاسعة من عمري أقرأ الصحف، وأجمع المعلومات عن أشياء تتجاوز كثيرا عقل طفل. وكنت أقرأ ثم أوجه عشرات الأسئلة إلى أبي، الذي كان يجد متعة في محاولة تبسيط الإجابات على أسئلتي الكثيرة التي كانت تدور حول كلمات تتردد في الأخبار وقتها، كنت أريد أن ألم بها وأفهم ماذا تعني مثل: مؤتمر الأقطاب، الأمم المتحدة، الحرب الباردة، الإمبراطورية التي لا تغرب عنها الشمس، سور الصين العظيم.

بدأت رحلة المعرفة بقراءة كتب السيرة النبوية المبسطة، وكتب القصص القرآني التي كانت تكتب خصيصا للصغار. ومنذ قراءة هذه الكتب - ربما حتى يومنا هذا - والمرء لا يكف عن التساؤل عن مغزى ما تحتويه ومعناه والفلسفة العظيمة التي تكمن خلف قصصها. وجاء بعد ذلك وقت كنا ندرس فيه كتبا مهمة مثل «عبقرية عمر» و«عبقرية الصديق» و«عبقرية محمد» في المدارس الإعدادية (المتوسطة)، وكانت شديدة الثراء رغم أننا كصبية صغار، كنا نجدها صعبة من الناحية اللغوية.

بعد ذلك جاء الخيال، فاتجهت إلى قراءة كل ما يقع تحت يدي من روايات عربية ومترجمة، وكنت من خلالها أحيا في التاريخ، أحلق في عوالم أخرى، وأطلع على ثقافات بعيدة عن محيطي الصغير المحدود بالمدرسة والبيت والشارع.. كانت قراءة الروايات نافذة خطيرة للإطلال على تاريخ العالم. ومنها انتقلت إلى قراءة كتب التاريخ، خصوصا القديم: الفرعوني والروماني واليوناني والصيني والأميركي أيضا، فقد كانت أميركا تحديدا، تمثل أمام أبناء جيلي تجربة فريدة، بصعودها الهائل إلى قمة العالم: حربيا وتكنولوجيا وعلميا.

ومن الخيال المصور إلى الخيال الأدبي جاءت السينما. وكانت مشاهدة الأفلام أكبر دافع للعودة إلى القراءة، ليس عما أشاهده من أفلام أدمنت عليها منذ ما قبل ظهور التلفزيون في بلادنا، بل للبحث فيما يصوره الفيلم من مادة تاريخية (إسبرطة واليونان وبطولات الإلياذة والأوديسا مثلا) أو مادة حربية (تاريخ الحرب العالمية الثانية). ومن السينما أيضا انطلقت أقرأ عن الشخصيات التاريخية التي لعبت أدوارا مشهودة في تاريخ بلادها مثل الإسكندر الأكبر وصلاح الدين الأيوبي ونابليون بونابرت وأيزنهاور وستالين وتشرشل.

وأحيانا كانت القراءة تسبق السينما، أي أنني كنت أقرأ أولا الرواية أو الروايات ثم أكتشف أنها تحولت إلى السينما. ومن بين أشهر الروايات التي بدأت تصدر وأنا في مرحلة الطفولة، سلسلة روايات جيمس بوند التي كتبها الإنجليزي إيان فليمنج. وقد تحولت فيما بعد إلى أفلام ناجحة، وكانت المشاهدة تدفع إلى العودة مجددا لقراءة الروايات لمعرفة ما جرى تحويره وتعديله فيها بعد أن تحولت إلى أفلام.

الرحلة مع القراءة لا تنتهي. وقد أصبحت لدي منذ وقت مبكر مكتبة، بدأت أولا صغيرة ثم أصبحت الآن تضم بضعة آلاف من الكتب، ثم أضيفت إليها مكتبة إلكترونية من آلاف الكتب التي لم يكن يخطر على بالنا يوما أن نعثر عليها.

إلا أن قراءة الكتاب الورقي لا تزال هي المتعة الأكبر.. والإمساك بدفتي الكتاب، متعة لا تعادلها متعة، بل إنني اعتدت أيضا منذ الصغر وحتى الآن، أن أحتفي بكل كتاب جديد أقتنيه، وكنت أحرص عليه وأشترط في حالة إقراضه لأحد الأصدقاء ألا يخط عليه أي كلمة أو علامة، بل وكنت أتشمم الكتاب الجديد وأستمتع برائحة ورقه. وكنت أتعرف على الكتاب من رائحة الورق المصنوع منه، كما كنت أستمتع برائحة الكتب القديمة التي كنت أشتريها في العصر الذهبي من على «سور الأزبكية» الشهير في القاهرة، الذي أصبح الآن، أثرا من بعد عين.. شأن أشياء كثيرة جميلة عبرت حياتنا! القراءة هي طريقنا للبحث عن المعرفة. ويا له من طريق شاق، كلما قطعنا فيه خطوة شعرنا بأنه طريق لا نهاية له، وقد قاربنا نهاية العمر وما زلنا بعد في أوله!

* ناقد سينمائي مصري.