«أقاليم الخوف».. شخصيات إشكالية يدمر بعضها بعضا

رواية تخوض في الصراعات السياسية الناجمة عن الاختلافات المذهبية والطائفية

غلاف «أقاليم الخوف»
TT

تنطوي رواية «أقاليم الخوف» للروائية الجزائرية فضيلة الفاروق على أكثر من عتبة «Seuil» نصية تمهد للولوج إلى النسق السردي لهذه الرواية الإشكالية من جهة البطلة مارغريت في الأقل وعلاقتها بالرجال الثلاثة الذين أحبتهم تباعا ووجدت في ثالثهم محمد، الرجل المنتظر الذي تفوح منه رائحة العود والنعناع.

فالجملة الاستهلالية «لا أحد يعرف الشرق كما أعرفه أنا» تصلح أن تكون عتبة مناسبة تتيح للمتلقي أن يطأ الفضاء المكاني للرواية، لكنها ليست العتبة الوحيدة في النص الروائي برمته، فحادث الهجوم الانتحاري الذي تعرضت له أسرة مارغريت بشرم الشيخ في مصر ونجت منه مارغريت وحدها يمكن أن يكون العتبة الأهم التي تضعنا في مواجهة الأحداث الدرامية والتفاصيل المتشابكة لهذه الرواية التي تخوض بجرأة نادرة في الصراعات السياسية الناجمة عن الأديان والمذاهب والطوائف وما يسفر عنها من حروب وتوترات في الشرق، مهبط الديانات السماوية والرسل، ومركز العالم الذي يستقطب الأنظار.

وبما أن المواطنة الأميركية المسيحية مارغريت، المتحدرة من أصل عربي، هي الوحيدة التي نجت من الحادث الإرهابي، فلا غرابة أن تنمو لديها رغبة قوية في فهم هذا الهجوم الغريب الذي فتك بأفراد أسرتها جميعا بوصفهم أميركيين ومسيحيين، الأمر الذي يدفعها لأن تحتك بالمسلمين في أميركا. لكنها بدل أن تزيح المساحة المضببة التي تكاثفت في ذهنها، وقعت في حب إياد، وهو أستاذ جامعي لبناني مسلم، ارتبطت به وانتقلت معه إلى بيروت التي أظهرت شخصيته المزدوجة التي لا تختلف كثيرا عن غالبية الرجال المسلمين الذين يعيشون في الشرق على وجه التحديد.

وبغية تأثيث النص الروائي وبنائه بناء رصينا، فقد توسعت فضيلة الفاروق في الحديث عن عائلة آل منصور التي تتألف من ستة أشخاص وهم «وهب، شهد، شمائل، إياد، جيلار ونورا»، إضافة إلى أبي وهب وأم وهب اللذين انزاح عنهما الاهتمام لينصب على أفراد هذه الأسرة اللبنانية السنية على وجه التحديد، بل إن الأضواء تكاد تسلط على ثلاث شخصيات إشكالية؛ وهي: شهد الثرية المتزوجة بالحاج عبد الله، وشمائل المقترنة برجل بسيط لا يحظى باهتمام الأسرة، وإياد الذي ارتبط بمارغريت لعدد من السنوات وحينما انتهت صلاحيته تخلت عنه وذهبت إلى رجل آخر. أما الشخصيات الثلاث الأخرى، فهي عادية وربما تكون الإشارة إلى نورا مهمة لأنها لم تتحجب بحكم عملها في شركة تجميل عالمية وزواجها بأستاذ جامعي يدرس في السوربون.

تنحو الرواية منحى كلاسيكيا في بنائها، ونمو شخصياتها، وتطور أحداثها، لكنها تضج بالمفاجآت التي تصدم القارئ وتنتشله من السياقات السردية المألوفة لتضعه في عالم فانتازي مغاير يقترب كثيرا من عالم الروايات البوليسية والجاسوسية والقتل بدم بارد، هذا العالم الذي أجلته الروائية المحترفة فضيلة الفاروق إلى الصفحات الأخيرة من الرواية، حيث يتكشف كل شيء ونتعرف في خاتمة المطاف على حقيقة الشخصيات التي كنا نتصورها طبيعية ومألوفة.

لم تكن عودة مارغريت وإياد إلى بيروت اعتباطية، بل هي مرسومة من قبل مارغريت الصحافية التي تنشر تقاريرها بانتظام في الصحيفة التي تعمل فيها، لكنها بدأت توحي لنا بأن كتاباتها لا تستطيع أن تغير شيئا، كما أن الهوة بينها وبين زوجها إياد بدأت تتسع، خصوصا بعد أن ورثت نحو مليون دولار من أملاك والدها في الضيعة اللبنانية. وبسبب مضايقة الأقرباء لها، قررت أن تهرب من بيروت إلى لندن، لكن زوجها اقترح عليها أن يسافرا إلى ماليزيا مدة أسبوعين، فصادفت صديقها القديم «نوا» الصحافي الأميركي الأسود الذي يعمل في المناطق الساخنة التي تشتعل فيها الحروب مثل أفغانستان وباكستان وكوسوفو وغزة والعراق. وخلال خمسة أيام، وجدت مارغريت نفسها تعود إليه، لكنها أخفت هذه الخيانة الجسدية والفكرية عن زوجها إياد. وحينما اكتشفت أن أواصر الحب قد تقطعت بينها وبين إياد، طلبت منه الطلاق على أمل أن يبقيا صديقين. هل تستمر علاقتها العاطفية مع «نوا»، الصحافي المغامر الذي يذهب إلى المخاطر بقدميه، أم أن هذا الحب سينطفئ مثل انطفاء حبها لإياد، خصوصا أنها «امرأة متقلبة المزاج، متقلبة الرغبات، متقلبة القلب أيضا!» وأكثر من ذلك فهي تقع في ثنائية الحب والكراهية ولا تعرف الحد الفاصل بين الاثنين. ورغم ارتياحها من العلاقة الجديدة مع «نوا»، فإن هذه العلاقة لم تدم طويلا. فما إن تشعر بالإحباط من عدم قدرتها على تغيير العالم بواسطة مقالاتها، فإنها تتجه للعمل في المتاجرة بالمجوهرات الثمينة والماس، هذه المهنة التي لا يحبذها «نوا» فيتضاءل حبه هو الآخر ويصلا إلى طريق مسدود أيضا، حيث يذهب إلى بغداد لتغطية أحداث الحرب الكونية الدائرة في العراق، لكنه يتعرض للاختطاف من قبل جماعة مسلحة ولم يترك وراءه سوى مصوره ميتش وسائقه العراقي لؤي الذي سيلاقي حتفه في أثناء عملية الاختطاف.

وبما أن مارغريت كانت بمثابة الجنة الوحيدة بالنسبة لنوا الذي يعيش وسط حروب متعددة، فقد قررت أن تذهب إلى بغداد كي تبحث عنه فتقع في الفخ وتصبح جزءا من حقل البذور الذكية، حيث يقوم الدكتور وليم حبيب شنيدر بتلقيحها، بينما تتعرف في الوقت ذاته على محمد الذي يقيس حرارتها وضغطها، لكنه لا يقبل بلقب الممرض. ورغم قسوته وفظاظته في التعامل معها حيث يحقق معها، ويصفعها غير مرة، ثم نكتشف أنه يعرف عنها كل شيء تقريبا... طلاقها من إياد، وعلاقتها المنتهية بنوا، وسفرها معه إلى بيروت وباكستان ودارفور، وأنها تنتمي إلى «منظمة النسور السوداء» وهي منظمة مشبوهة تسمى «منظمة إنعاش مشاريع نساء العالم الثالث» التي تجند النساء لمحاربة الإسلام. ورغم سوء معاملته، فقد كانت تشتهي قسوته وظلمه ورائحته، ربما بسبب مشاعرها الغامضة التي تجمع بين الحب والكراهية. وحين يبدأ بتعذيبها تتولد في داخلها مشاعر مازوخية عجيبة يختلط فيها الألم بالاستمتاع. إنه الشخص الوحيد الذي ترك أثرا على جسدها وروحها في آن معا. ورغم مشاعرها المختلطة المشوشة، فإنها تقرر في خاتمة المطاف أن محمدا سيكون الرجل الأخير الذي تمشي خلفه بعد أن أغلق ملفها وكتب عليه «العملية رقم 55». ولكن في الوقت نفسه، تقتل الناشطة الأميركية في حقوق الإنسان مارغريت نصر التي عثر عليها مقتولة في غرفتها بأحد فنادق بغداد. هكذا، يتكشف غموض شخصية مارغريت التي جندت بعد تفجير شرم الشيخ تحت غطاء منظمة نسائية تدعم مشاريع إنمائية، لكن مهمتها الحقيقية هي قمع أي بوادر للنهضة في المنطقة. وقد جندت كلا من إياد ونوا وميتش من دون أن يعرفوا.

ثمة مفاجآت كثيرة في هذا النص؛ نذكر منها أن إسماعيل جاد الحق، تاجر السلاح اللبناني هو نفسه الشيح عبد الله زوج شهد الذي كان مقنعا بالورع والتقوى، وأن مارغريت هي «يتيمة حرب» وابنة بالتبني لنديم نصر الذي كفر عن ماضيه لأنه باع أطفالا كثيرين خلال سنوات الحرب الأهلية.

تحتاج رواية «أقاليم الخوف» إلى طبيب نفسي وناقد معا كي يحلل لنا شخصية مارغريت من الناحية العاطفية فهي تحب وتكره، تتحمس وتفتر، وتشعر بالحاجة الدائمة للحب رغم أنها كانت متزوجة بإياد الذي اكتشفت ازدواجيته فتخلت عنه، كما أن ماضيها العاطفي ليس سويا تماما.

نخلص إلى القول بأن مارغريت هي شخصية مازوخية بامتياز تستمتع بالألم واللذة معا، ولا تجد ضيرا في الاضطهاد الذي يلحق بها جراء تصرفاتها المرضية.