إيران وألمانيا.. علاقة استثنائية عمرها مائة سنة

نظر الألمان دائما إليها بوصفها حليفهم الوحيد المحتمل في الشرق الأوسط

إيران وألمانيا: صداقة امتدت لمائة عام - كتاب: الألمان وإيران.. تاريخ علاقة مصيرية - المؤلف: ماتياس كونتزيل - 352 صفحة
TT

في الوقت الذي تستعد فيه مجموعة «5+1» إلى إجراء جولة جديدة من المفاوضات مع إيران، يفترض غالبية المعلقين أن القوى الغربية الأربع، التي تتضمن الولايات المتحدة، وبريطانيا العظمى، وفرنسا، وألمانيا، متحدة في عزمها على تقويض طموحات إيران النووية. ورغم ذلك، يزعم الأديب الألماني ماتياس كونتزيل في كتابه أن موقف ألمانيا بشأن هذه القضية قد يكون أقرب إلى الموقف الذي تتبناه روسيا، وليس الولايات المتحدة.

والسبب في ذلك وفقا لكونتزيل هو «العلاقة الاستثنائية»، التي نسجتها إيران وألمانيا منذ عام 1871، عندما برزت ألمانيا بوصفها دولة قومية. وعقب عامين من ظهور ألمانيا على الخريطة كدولة جديدة، وصل ناصر الدين شاه إيران إلى برلين في زيارة رسمية في موكب لم يسبق له مثيل. وليس من الصعب معرفة السبب وراء احتفاء الطرفين ببعضهما؛ فمن جهة، ظلت إيران لما يزيد عن قرن من الزمان تبحث عن قوة أوروبية يمكنها أن توازن الإمبراطوريتين القيصرية والبريطانية اللتين نهشتا أطراف الأراضي الإيرانية، في إطار طموحهما الاستعماري. وبدت ألمانيا في عام 1871 حليفا جيدا. من جهة أخرى، نظر الألمان إلى إيران بوصفها حليفهم الوحيد المحتمل في الشرق الأوسط، الذي يهيمن عليه بريطانيا وروسيا. وجرى اختبار صداقتهم خلال الحرب العالمية الأولى عندما رفضت إيران أن تنضم إلى المحور المناوئ لألمانيا، مما جعلها تعاني عواقب هذا الموقف. وبمجيء النظام النازي، وفقا لرؤية كونتزيل، أضيف بعد جديد إلى العلاقة الإيرانية - الألمانية، ألا وهو خرافة الأصول الآرية المشتركة، ثم أعلنت إيران مرة أخرى أثناء الحرب العالمية الثانية حيادها، ولكن هذه المرة قام الحلفاء بغزوها، نتيجة لرفضها أن تقطع علاقاتها بألمانيا النازية.

لقد ظل الإيرانيون ينظرون إلى أنفسهم بوصفهم ورثة الهوية الآرية، الأمر الذي تؤكده النقوش السفلى التي يرجعها تاريخها إلى أكثر من 2500 عام مضت، حين وصف داريوس، ملك ملوك الأخمينيين، نفسه بأنه «آري وابن آري». كما أن اسم البلاد، إيران، يعني «أرض الآريين»، بينما يرجع تاريخ فكرة أن الألمان من أصل آري إلى القرن الـ19، وظهور فكرة القومية في أوروبا. ومن هنا ادعى كتاب، مثل شليغل وهردر، أن الألمان انحدروا من قبائل الأور الآرية، التي يرجع أصلها إلى مكان ما في قارة آسيا، ثم انفصلوا إلى جماعات عدة، قبل أن يتجهوا إلى الهند، وإيران، ووسط أوروبا (عقب ذلك بكثير، ادعى الآيرلنديون أيضا أن أصولهم آرية، وقاموا بتسمية جمهوريتهم المؤسسة حديثا باسم جمهورية آيرلندا، التي تعني أرض الآريين).

وفي الثلاثينات، نشر ألفريد روزنبرغ، أحد الفلاسفة المقربين من هتلر، كتابا بعنوان «خرافة القرن الـ20»، زعم فيه أن مشعل الآرية قد انتقل من الإيرانيين إلى الألمان. والسبب وراء ذلك هو أن السلالة الإيرانية «أفسدها» الإسلام و«سلالات منحطة»، مثل العرب والمغول. وعندما أراد الرايخ الثالث في عام 1936 نشر قائمته الرسمية التي تشمل السلالات العليا والدنيا، أثير بعض الجدل بشأن المكانة التي ستُخصص للإيرانيين. وفي النهاية ساد مبرر وجود الدولة، وأعلنت إيران «أمة آرية».

ولكن لم يكن ذلك نهاية الحكاية، إذ طالبت الحكومة الإيرانية الرايخ بعدّ جميع مواطني إيران، بمن فيهم اليهود، «آريين». بيد أن هذا الطلب أثار غضب المسؤولين النازيين المتهمين بـ«التخلص» من اليهود.

ويقول كونتزيل إن أدولف ايخمان أصر على أن تقوم السلطات الإيرانية بإدراج اليهود الإيرانيين، الذين زاد تعدادهم في ذلك الوقت على 60 ألفا، في قوائم، وأن يجري اعتقالهم. بيد أن طهران رفضت هذا الطلب، وذهبت إلى أبعد من ذلك، وأصدرت جوازات سفر لمئات الألمان اليهود الذين رغبوا في مغادرة الرايخ (وقامت السفارة الإيرانية في باريس بالشيء ذاته لمئات اليهود الفرنسيين).

وتسببت الخرافة الآرية في حدوث سوء تفاهم بين طهران وبرلين، بالنسبة للإيرانيين، مثل لفظ «آري» مدلولا حضاريا، وليس له علاقة بالجنس، وعليه فإن أي شخص شارك في بناء الحضارة الإيرانية يستطيع أن يدعي بأنه من أصل آري، فعلى سبيل المثال، كانت استير واحدة من أكثر الملكات الإيرانية شهرة، يهودية. وكان جد رستم لأمه، بطل ملحمة إيران الوطنية «الشاهنامه» (كتاب الملوك)، وهو الضحاك، ذو أصل عربي.

وتفاخر الراحل آية الله الخميني بأصله الذي يرجع إلى العرب جزئيا، وذلك بزعم أنه من نسل النبي محمد، بينما كان الألمان يعتقدون بأن الآرية تمثل مفهوما له علاقة بالجنس، ومرتبطا بالدم والعرق.

ويظل سوء التفاهم إلى الآن؛ ففي عام 1986، كتب رفسنجاني، الملا الذي شغل منصب رئيس الجمهورية الإسلامية، خطابا إلى المستشار الألماني هلموت كول ذكر فيه «جذورنا الآرية المشتركة»، وكان يحلو لكلاوس كينكل، وزير خارجية كول، أن يقول في إشارة إلى العلاقات التي تجمعهم مع إيران: «تراثنا المشترك ومائة عام من التحالف».

وفي خطاب أرسله إلى المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل في 2009. قال رئيس إيران محمود أحمدي نجاد إن «التحالف» الإيراني - الألماني (الذي أنهاه الحلفاء عام 1941) ينبغي أن يجري إحياؤه.

ومن اللافت للنظر، أن القادة الألمان لم يكترثوا بالتبرؤ من هتلر والنأي بأنفسهم عن الخرافة التي نسجها النازيون، وفي آخر 50 عاما أو نحو ذلك، سلط الضوء على «العلاقات الاستثنائية» التي تربط بين إيران وألمانيا في كثير من المناسبات، منها على سبيل المثال، استضافة إيران لأول معرض ألماني يقام في دولة أجنبية عقب الحرب العالمية الثانية في عام 1960، بحضور وزير الاقتصاد لودفيغ إرهارد على رأس وفد يضم أكثر من مائة رجل أعمال ألماني.

وبعد ذلك كان يحرص جميع المستشارين الألمان، بدءا من كونراد أديناور، على زيارة إيران، إلى أن سقط حكم الشاه. وحتى بعد استيلاء الملالي على السلطة، عزز الألمان تلك العلاقة الاستثنائية، عبر القيام بزيارات رفيعة المستوى، بما في ذلك زيارة المستشار غيرهارد شرودر. فضلا عن ذلك، وعندما سن تشريع يقضي بتشجيع الاستثمار في إيران، كانت تلك هي المرة الوحيدة التي أقر فيها البرلمان الألماني الاتحادي قانونا بالإجماع. ويرى بعض النقاد أن السبب وراء ارتباط الألمان بإيران يرجع إلى أسباب اقتصادية بحتة إلى حد كبير.

بيد أن كونتزيل يرى أن الأمر ليس كذلك، إذ إن ألمانيا بوصفها أكبر المصدرين في العالم، ليست في حاجة ماسة إلى إيران التي مثلت أقل من نصف في المائة من جميع صادرات ألمانيا في عام 2013. وليس لأن ألمانيا أحد المستوردين الرئيسين للنفط الإيراني، فبحسب كونتزيل، هناك سببان على الأقل يحملان القادة الألمان على مساعدة إيران لتحدي الولايات المتحدة.

السبب الأول هو امتعاض ألمانيا من هزيمتها في الحرب العالمية الثانية، التي أعقبها احتلال أجنبي تحت قيادة الولايات المتحدة الأميركية. ولا يمكن أن يعبر عن هذا الامتعاض علنا، حتى ولو كان ذلك ليس لسبب سوى أن ألمانيا عضو في «الناتو»، أو لحاجتها إلى الحماية الأميركية ضد روسيا، التي كانت تمثل عدوا خطيرا خلال الحرب الباردة.

السبب الثاني هو أن إيران واحدة من الدول القليلة، إن لم تكن الوحيدة، التي لم تنظر إلى الألمان بوصفهم «مجرمي حرب» بسبب هتلر. وظلت ألمانيا، لمدة تجاوزت مائة عام، القوة الأوروبية المفضلة لدى الإيرانيين. ويبادل الألمان ذلك الشعور بتقدير إيران. ويستشهد كونتزيل بعدد من استطلاعات الرأي التي تظهر أن الغالبية العظمى من الألمان يعتقدون بأن الولايات المتحدة وإسرائيل هم من يمثلون تهديدا للسلام العالمي، وليس إيران. ويشدد كونتزيل على أن الألمان سئموا من تذكيرهم دائما بجرائم هتلر، من خلال اللعب على وتر «الهولوكوست»، بيد أن الشعب الإيراني لم يعر قضية الهولوكوست اهتمامه على الإطلاق، وهو ما يشعر كثيرا من الألمان بالارتياح.

وأخيرا، يعطي الملف النووي الإيراني لألمانيا فرصة لعب دور دبلوماسي كبير. ومن الناحية الاقتصادية، تعد ألمانيا قوة اقتصادية أكبر من بريطانيا، وفرنسا، وروسيا، والصين. ورغم أنها ليست عضوا في مجلس الأمن، فإن معادلة مجموعة «5+1» هي بمثابة مجلس أمن موازٍ لألمانيا، فيه فصل الخطاب، حيث وصف وزير الخارجية الألماني يوشكا فيشر بلاده بأنها تمثل «درعا لإيران في مواجهة الولايات المتحدة».

ويتميز كتاب كونتزيل بأنه يعطي لمحة عما يدور في خلد الساسة الألمان، وعما يفكرون فيه في صمت.

وقد كُتبت النسخة الأصلية لكتاب كونتزيل باللغة الألمانية، وهو متوفر الآن بالفارسية والإنجليزية.