هل وصل المستقبل فعلا.. أم نحن في انتظار دائم له؟

كتاب في «علم المستقبليات» يتوقع مسار الإنسان في العقود التالية

TT

الحذلقة اللغوية التي استخدمها المؤلف في صياغة عنوان هذا الكتاب تتجاوز في الواقع التمرين الذهني الذي قد نجد أنفسنا بصدده ونحن نعيد قراءة العنوان حتى نستوعب بالضبط ما الذي يريده المؤلف. فالهدف أعمق من ذلك وأطروحة الكتاب تسبر أغوار علوم المستقبل وشكل البشرية المتوقع في أسلوب لا يقطع بين هذا المستقبل والماضي وكذا الحاضر الذي نعيش. فما هو هذا المستقبل؟ وهل سوف يصل إلينا في أي يوم من الأيام؟ أم نحن في حالة انتظار دائمة له تمثل إحدى سمات الحياة الراهنة؟ أم أن المستقبل قد وصل وأنتهى أمره بالنظر إلى التقدم العلمي الهائل الذي حققه الإنسان، سواء على الأرض أم في الفضاء، في الطب أم في الهندسة، في الإتصالات أم في الكيمياء البيولوجية والإستنساخ، في الكومبيوتر والإنترنت أو في أعماق طبقات الجيولوجيا والبحار؟ هل هناك من مستقبل بعد هذا؟ ألا نقف نحن الآن على حافة نهاية الكون حيث جاء الماضي وجاء الحاضر وجاء المستقبل ولم يعد هناك من مزيد؟ الإجابة التي يواجهنا بها المؤلف في هذا الكتاب هي لا كبيرة: المستقبل لم يصل، ولن يصل وسوف نظل في تقدم مستمر الشيء الأكيد فيه هو أننا لسنا متأكدين حقاً من شكل وطبيعة المستقبل، لكنه بالتأكيد مختلف عن الحاضر الذي نحياه، ولا يعترف بـ«عنجهيتنا» الراهنة التي نعتمد عليها للزعم بأننا وصلنا، أو شارفنا على الوصول، إلى منتهى الأرب في فنون العلم والأدب. هذا الكتاب ينتمي إلى «علم المستقبليات» المهموم بتوقع مسارات البشرية والإنسان في العقود والقرون التالية، وهو علم مثير ممتع خاصة عندما تساق نظرياته وطروحاته بأسلوب شيق لكن بالاعتماد على خبرتنا في الماضي وتوقعات من سبقونا حول مستقبلهم الذي هو حاضرنا الآن. لكن يشكل ذلك الاعتماد على خبرتنا في الماضي، وكما يلاحظ المؤلف، إحدى نقاط الضعف التي تعاني منها علوم المستقبليات لكن لا مناص للتخلص منها. فالبشر محكومون في نهاية المطاف بالتجارب التي يخوضونها، ويصعب عليها أن يتوقعوا أو يتخيلوا عالماً آخر لا تكون مكوناته شبيهة أو متولدة عن مكونات عالمهم.

لكن أهم ما يجب أن يحكم نظرتنا للمستقبل هو التخلي عما يسميه المؤلف «عنجهية الحاضر» واعتباره نهاية الشوط البشري. فالملاحظة الطريفة هي أن كل جيل من الأجيال البشرية اعتقد بأنه وصل إلىه نهاية ذلك الشوط وكان ينظر إلى الماضي بنوع من الزهو بإعتبار الحاضر الذي وصله ذلك الجيل كان «عصرا خاصاً»، تماماً كما نشعر نحن الآن عندما ننظر إلى حاضرنا. ويسرد المؤلف حالات طريفة تعبر عن الشعور بالتفوق والختام عند الأجيال، فيذكر أنه في عام 1920 في الولايات المتحدة كانت هناك مقترحات جدية لإقفال باب الاختراع ومنح براءات اختراعات جديدة، وذلك نظرا لأن كل ما يمكن اختراعه تم اختراعه، كما برر مسؤول مكتب براءات الاختراعات آنذاك تشارلز ديول. وفي عام 1909 هزأ موظفو الجمارك البريطانيون بمقولة «احتمال تنقل المسافرين والبضائع عبر الجو»، وقالوا يجب إهمال هذه «التخرصات» لأنها لو حدثت فإن معناها هو إغلاق مكاتب الجمارك وإقفال الدائرة برمتها، بل حتى أمد قريب كان البعض من أكثر الناس ذكاءً وتخصصاً في علوم الجو يعتقدون أنه من المستحيل على الإنسان أن يسبر غور الفضاء، ومن هؤلاء عالم الجو البريطاني السير هارولد سبنسر الذي دحض «الأوهام» التي تحوم حول فكرة سفن الفضاء وذلك سنة .1957 ومن سوء حظه أن السوفيات أطلقوا اول سفية فضائية في التاريخ سبوتنيك ـ 1» بعد أسبوعين فقط من تصريحه ذاك. وعندما فكرت شركة «آي بي إم» الأميركية الشهيرة المتخصصة في صناعة الكومبيوترات بإنتاج كومبيوترات وبيعها في الأسواق في أواخر الأربعينات من القرن الماضي صرح مديرها آنذاك توماس واتسون بأنه لا يعتقد أن السوق يمكن أن يستوعب أكثر من خمسة كومبيوترات على الأكثر. والآن كلنا نعلم أن بعض البيوت فيها هذا العدد من أجهزة الكومبيوتر. على الصعيد الاجتماعي، لم يكن أحد يتصور قبل خمسين سنة ما آلت إليه أوضاع المرأة في العالم من ناحية المساواة واكتساب الحق في التعليم والعمل وممارسة السياسة بل وتسلم المنصب الأول في العديد من الدول. ويقتبس من أحد الكتب الإنجليزية التوجيهية الصادرة في أواخر عقد الخمسينات من القرن الماضي (1950) النص التالي الموجه للمرأة: «لا تسألي زوجك أسئلة حول أفعاله، كما لا تناقشي أحكامه ونظرته للأشياء. تذكري أنه سيد البيت وبكونه كذلك فإنه يمارس الإنصاف والحق. وليس لك الحق في مساءلته، فالزوجة الجيدة هي التي تعرف دوماً مكانها وحدودها».

ويعلق المؤلف بأن هذا النص يثير ضحك أي امرأة في الغرب الآن. وعلى نفس الصعيد الاجتماعي لم يكن أحد يتصور قبل نصف قرن أن يدخل شخص أسود على مطعم أو فندق ويقوم بخدمته نادل أبيض أو تنظف غرفته عاملة تنظيف بيضاء. واستناداً إلى ذلك كله فإن «المستقبل» سوف يحمل ما لا يمكن أن نتخيله الآن. فعلى سبيل المثال إلى أي مدى يمكن أن يصمد «الكتاب» أو الكلمة المكتوبة بشكلها الحالي، مثل الصحف والمجلات وغيرها، أمام غزو الكومبيوتر والإنترنت والكومبيوترات اليدوية والنقالة عن طريق الهواتف. بل هل تصمد الهواتف النقالة هي ذاتها خاصة وأن بعض شركات الاتصالات الالكترونية، مثل أورانج، تعمل على تصنيع ما تسميه «ستاد» يوضع بنعومة في الأذن ويكون بمثابة التلفون النقال الدائم، والإذاعة التي تنقل الأخبار على مدار الساعة ويستخدم أيضاً للتحكم في خدمات البيت والمكتب عن طريق ألياف متصلة بالدماغ وتأخذ أوامرها منه مباشرة. ويذكر المؤلف أن هذه الأفكار ليست شطحات أو تهويمات مستقبلية بل إن أحد المولعين بتكنولوجيا الإتصال المستقبلي، وهو بروفسور في جامعة ريدنج البريطانية، زرع داخل جسمه مجسات تتلقى تعليمات من دماغه وتوجه أشعة مباشرة تنقل تلك الأوامر مثل أن تفتح الباب عندما يتجه البروفسور نحوه، أو يتواصل مع زملائه وهم في مكاتبهم أو أماكن أخرى وينقل لهم أفكاره ويتسلم أفكارهم عن نفس الطريق.

* خدمة «كامبردج بوك ريفيو»

* تاريخ مختصر عن الغد:

* مستقبل الماضي والحاضر

* المؤلف: جوناثان مارغولي

* الناشر: بلومزبري ـ لندن