الوقاية من الجريمة في المجتمعات العربية

كتاب يدعو إلى الاستفادة من التجارب العالمية للحد من الجريمة

TT

يفترض العرب عموماً، بسبب تدني نسبة الجريمة في مجتمعاتهم قياساً الى غيرهم، بأنهم معفيون من التفكير بشأن السلوك الاجرامي، وبالتالي فهم معفيون من اتخاذ الاجراءات الوقائية الكفيلة الحد من التوجهات الاجرامية بينهم. ومن باب الرضى بالموجود او التقاعس عن تحسين شروط الوجود فإن برامج الوقاية من الجريمة قبل وقوعها في المجتمعات العربية ما تزال شديدة البدائية، محدودة الجدية. ويأتي كتاب د. أحسن طالب الصادر حديثاً عن «دار الطليعة» تحت عنوان «الوقاية من الجريمة» بمثابة مؤلف رائد، في الميدان، باللغة العربية، بحيث يعرض لمختلف المفاهيم والنظريات المتداولة حول الوقاية من الجريمة، ويتحدث مفصّلاً عن البرامج والخطط الوقائية، والاجراءات العملية الواجب اتباعها لهذه الغاية، ويقدم نماذج غنية ومتنوعة للبرامج الشمولية او الموضعية التي يجري العمل بها في انحاء مختلفة من العالم.

ويبدأ المؤلف بتحديد مفهوم الوقاية، ثم ينتقل الى الحديث عن مراحل تطورها ابتداء من المدرسة التقليدية في القرن الثامن عشر التي اشترطت ان يكون للعقوبة وظيفة اجتماعية، مروراً باعداد البرامج الوقائية في منتصف القرن العشرين مع مدرسة الدفاع الاجتماعي التي اكدت اهمية مشاركة الفئات والمنظمات الاهلية والحكومات لتجنب مواقف سلبية من نمط: «ما دام الموضوع لا يخصني او لا يخص افراد عائلتي فلا داع للتدخل»، وصولاً الى مرحلة التقويم التي تتمثل بالتفكير بجدوى النماذج والاساليب، المعمول بها حالياً، بعد ثلاثين سنة من تطبيقها على مستوى المجتمعات العربية.

ثم يتطرق الكاتب الى نظريات في الوقاية من الجريمة كأن يشمل التخطيط العمراني معايير وقائية كي لا يعيق الضبط الاجتماعي ويفسح المجال لحدوث الافعال الاجرامية (نظرية المحيط الآمن). كما ان انماط الحياة الروتينية تبعد الناس عن بيوتهم وممتلكاتهم وتوفر للمجرم/الضحية، وخصوصاً بعد زيادة الاهتمام بالكسب المادي فرصة الاستفراد باملاكهم، (نظرية النشاط الرتيب). من جهة اخرى، قد يكون للفرد نفسه علاقة في احتمالية وقوعه ضحية للجريمة تبعاً لاسلوب الحياة الذي يتبعه والمكان الذي يختاره للعيش والافراد الذين يختلط بهم او يكون عرضة لهم. (نظرية اسلوب الحياة).

ومن النظريات ينفذ طالب الى العمل الوقائي الميداني الذي يجري من خلال تشكيل اللجان والمجالس البلدية والوطنية والاقليمية للحد من الجريمة والتي تضع السياسة الاستراتيجية الشاملة وتعمل في اطار رسمي منظم بعيداً عن التطوع كما تفرض نفسها للحصول على التمويل الضروري لا سيما عندما تكون خططها وبرامجها مدروسة وعلمية، علماً ان الكثير من المشاريع التطبيقية لا تزال حتى الآن، تقابل بالفتور من المسؤولين والمعنيين بمشاكل الجريمة والجنوح في العالم العربي.

ومهما يكن من امر، فالانطلاقة الحقيقية للعمل الميداني بحسب طالب حديثة جداً، بحيث بدأت من فرنسا سنة 1982 واصبحت، في ما بعد، معتمدة بشكل فعلي في مختلف دول العالم من جنوب افريقيا الى البرازيل وتايلاند وسويسرا، لكنها في عالمنا العربي لا تزال تجري وراء سراب المكافحة المباشرة للسيطرة على الجنوح ويظهر اننا لم نستوعب الدرس بعد، على حد تعبير المؤلف.

ويعرض الكاتب بعض التجارب الوقائية ومنها التجربة الفنلندية بواسطة المؤسسات التربوية حيث اعتمدت فنلندا على ادخال مادة الوقاية من الجريمة في المناهج الدراسية وتولى شرطي بالزي الرسمي تدريس المادة للتلاميذ. ويبدو ان هذه التجربة اعطت ثمارها، لان فنلندا، تعد اليوم، من الدول القليلة في العالم، التي استطاعت تقليص الجريمة في السنوات الاخيرة، بحيث ان معدل جريمة القتل لا يتعدى الـ3 لكل 100.000 ساكن.

أما تجربة «نادي نواب الشرطة» في استراليا التي يتحدث عنها الكاتب، فهي تتصل بالفئة العمرية 5 ـ 15 سنة وبالاطفال المعوقين الاكبر سناً وتحثهم على الانخراط في النادي بهدف تحسين العلاقة بين الاطفال والشرطة واعطائهم صورة مشرقة وجذابة وخصص لهذا النادي 65.000 دولار استرالي من طرف شرطة الولاية المعنية بالتجربة.

اما الجمعية الجزائرية «الاطباء في الاستماع» ذات الاهداف الوقائية، فالغاية من عملها مساعدة فئات الاحداث المعرضين للانحراف عن طريق الاهتمام بمشاكلهم بالاستماع اليهم اولاً ومن ثم دراسة اوضاعهم ضمن محيطهم واماكن سكنهم. لكن هذه الجمعية تواجه ضعف الامكانات المادية وقلة الاخصائيين التربويين والاجتماعيين والنفسانيين التي ما تزال قاصرة عن مجاراة هذه التطورات الاجتماعية.

بيد ان الاهتمام بالوقاية من الجريمة، عربياً، لم يبرز الا بعد ان اعتمدته الامم المتحدة فعلياً وموضوعياً في مطلع الخمسينات وظهرت مجهودات اكاديمية، «نايف العربية للعلوم الامنية»، وهي الجهاز العلمي لمجلس وزراء الداخلية العرب والتي يعمل في اطارها الدكتور طالب ويعتبرها الركيزة الانسب التي يجب ان تتبلور فيها الافكار والبرامج والاساليب المتجددة في معالجة الظاهرة على مستوى الوطن العربي ككل.

ويؤكد المؤلف ضرورة ان تستفيد الاكاديمية من التجارب العالمية الناجحة ومعرفة ما يصح منها للوطن العربي بغية دراستها والتعريف بها على المستويين العربي والاقليمي.

* الوقاية من الجريمة

* المؤلف: د. احسن طالب

* الناشر: دار الطليعة