ساعتان هزتا العالم (الحلقة الأخيرة) ـ التاريخ ذريعة أكثر منه سببا.. مقولة مريبة

إذا كانت أحداث سبتمبر فريدة في تأثيرها فإنها لن تكون الأخيرة في أعمال الإرهاب الجماعي في السياسة الحديثة

TT

ثمة ردان كثيرا التواتر على اي حدث جلل، وكلاهما غير مناسب ان لم يكن خطأ من الاساس: القول بأن كل شيء تغير والقول بأن شيئا لم يتغير. كان هذا صحيحا على منعطفات كبرى في تاريخ العالم الحديث: 1914 ـ 1939، وفي زمن احداث الثورة الايرانية في 1979، سقوط جدار برلين في 1989، احتلال العراق للكويت في 1990، من بعض النواحي، استمر المجتمع والعلاقات بين الدول كما في السابق. وفي ظل خطابية عن التغيير، واصلت الدول والبشر تعاملهم وتجارتهم وحياتهم. والحق ان دراما الاحداث ذاتها، حتى عندما دفعت الناس قدما الى عالم جديد والى نزوح مادي ونفسي، فانها ايضا اعادتهم الى موضوعات وقضايا اسبق: المحبة والكراهية، الخوف والتضامن، العداوات والاسباب كلها شبه دُفنت بما بدا انه تقدم، نصوص كلاسيكية في السياسة، الدين، الشعر.

من هذه الناحية، لا تكون احداث 11 ايلول (سبتمبر) 2001 مختلفة. من الواضح ان هذه الاحداث اطلقت تغيرا كبيرا في العلاقات الدولية، بين الولايات المتحدة الاميركية وحلفائها ومناطق من العالم الاسلامي، واعادة اصطفاف في الدبلوماسية، خاصة في ما يتعلق بعضوي مجلس الامن الاكثر ابتعادا، وهما روسيا والصين، وحملة في المجالات العسكرية والاستخبارية والسياسية ستتواصل سنوات. وان تكون هذه الحملة مبهمة من عدة اوجه، بلا نهاية واضحة او آليات، فان ذلك يضيف الى الغموض والى تلك السوداوية العالمية ما بعد 11 ايلول (سبتمبر)، التي تتبدى في الحياة اليومية كما في الاقتصاد العالمي، والتي تنذر بالاستمرار شوطا بعيدا في المستقبل. تغيرت الولايات المتحدة في المقام الاول: قرنان من العزلة الفيزيائية عن النزاعات في بقية العالم، امن مستتب، فردي وجماعي في آن، وبما هو كذلك قيمة مشتركة للكثير من باقي العالم، تبددت في تلك الساعة المتأخرة من صباح صيفي. وطال هذا المجتمع انعدام امن جديد مفاجئ، دولي ومباشر.

يتبدى ابهام هذا النزاع، قبل كل شيء، في غياب اي نهاية واضحة. ولكنه مبهم بالقدر نفسه في غياب اي بداية واضحة. قد يسأل المرء متى كانت البداية في اي حرب. فالحرب العالمية الثانية بدأت لكثيرين في اوروبا عام 1939 ولكنها بالنسبة لروسيا والولايات المتحدة بدأت عام 1941، وفي الصين عام 1937، وفي اسبانيا عام 1936، وفي اثيوبيا عام 1935. الحرب الفيتنامية بدأت بالنسبة للولايات المتحدة في عام 1965، وانتهت في عام 1973، لكنها بالنسبة للشيوعيين الفيتناميين بدأت انتفاضة آب (اغسطس) 1945 ضد اليابانيين واستمرت حروبا مع فرنسا والولايات المتحدة، وانتهت باعادة توحيد البلاد في عام 1975. ويصح تفاوت مماثل على التسميات. فان ما يسميه العالم الغربي «ازمة الصواريخ الكوبية» في تشرين الاول (اكتوبر) 1962 هو عند الروس «ازمة الكاريبي»، وعند الكوبيين الذين يشيرون الى انه لم يكن اي من الصواريخ ذات العلاقة «كوبيا» هي «ازمة اكتوبر» la crise de Octobre. والحرب العربية ـ الاسرائيلية في 1973 هي حرب اكتوبر في الغرب وحرب «يوم كيبر» في اسرائيل وحرب رمضان في العالم العربي اشارة الى بدء غزوة «بدر» في شهر الصيام عند المسلمين.

يتيح السياق حتى قدرا اكبر من الالتباس. وقد سعى العديد من المعلقين في العالمين المتطور والنامي الى وضع 11 ايلول (سبتمبر) 2001 في سياق نزاع وعنف اوسع كلفا مئات الالوف من الارواح، عانت منهما مناطق العالم في السنوات الاخيرة: في انغولا، الكونغو، اسرائيل/فلسطين، افغانستان وغيرها. واذا كانت الولايات المتحدة بريئة وغير مستعدة في 11 ايلول (سبتمبر) فانها لم تكن بعيدة عن المسؤولية، والتواطؤ في بعض الحالات، في هذه النزاعات السابقة. واحداث 11 ايلول (سبتمبر) 2001، اذا كانت فريدة في نطاقها وتأثيرها فإنها لم تكن الاولى ولن تكون الاخيرة في اعمال الارهاب الجماعي في السياسة الحديثة.

يكثر الحديث عن الماضي الكولونيالي والعولمة في اسباب ما حدث في 11 ايلول (سبتمبر). لكن من المناسب والصواب هنا الاستماع الى ما قاله من اعلنوا انفسهم المنفذين ذاتهم. اذ لا يبدو انهم يبالون باللامساواة العالمية بما هي كذلك او بما حدث خلال الحرب الباردة في افريقيا او اميركا اللاتينية او شرق آسيا. وهم يكرهون حكامهم «المنافقين» ولكنهم يكرهون ايضا المسلمين الشيعة الذين يعيشون بين ظهرانيهم في العالم العربي والاسلامي (ايران، باكستان، افغانستان) ويضمرون، على اساس المتاح من الادلة، كراهية بغيضة ودفينة للمرأة. وعند قيادة تنظيم القاعدة فان تاريخ النزاع يعود ـ هكذا هم يقولون ـ الى ما قبل 80 عاما: يعني هذا ان تاريخ النزاع يرتبط بأحداث غير محددة بدقة في الشرق الاوسط ابان العشرينات. والارجح ان يكون هذا اشارة الى الآثار الناجمة عن سقوط الامبراطورية العثمانية، بما في ذلك، كقائمة ممكنة لاحداث البداية، فرض الانتداب البريطاني والفرنسي في مناطق من العالم العربي عام 1920 والغاء تركيا الخلافة عام 1924 وتصاعد الهجرة اليهودية الى فلسطين. وهي يمكن ان تتضمن، ربما بصفة خاصة، قيام المملكة العربية السعودية عام 1926. وفي صورة آنية اكثر، نسب قادة القاعدة بداية نشاطهم الى تاريخ حرب الكويت في 1990 ـ 1991 وتمركز قوات اميركية في اراضي المملكة العربية السعودية. وان تكون هذه النقطة سفسطة تعني ان الجزيرة العربية برمتها ارض مقدسة وليس مكة المكرمة والمدينة المنورة ومناطقهما المحيطة وحدها، فان ذلك لا ينتقص من دعوتها الايديولوجية. كما انها تتجاهل حقيقة مهمة بعض الشيء هي ان هناك اميركيين، اي مسلمين اميركيين في مكة، وايا تكن السوابق، وللمرء ان يرتاب بأن التاريخ ذريعة اكثر منه سببا، فالسوابق موجودة.

التطلع الى الامام، في اعقاب هذه الاحداث مباشرة، مهمة شاقة، فلا احد يعرف كم من البلدان ستنجر الى نزاع عسكري، ولا احد يعرف ما سيكون عليه حجم الصدام الثقافي ورقعته الجغرافية، ولا احد يستطيع ان يقيّم التأثير الابعد مدى في الاقتصاد العالمي، ولا احد يستطيع ان يقول على وجه التحديد كم من انظمة الحكم المهددة نتيجة ارتباطها بالغرب، ستكون باقية في غضون خمس او عشر سنوات على سبيل المثال. ان العالم اجمع، بلغات مختلفة وعلى مستويات عدة ـ استراتيجية، اقتصادية، سياسية، ثقافية، وجودية ـ يحلق تحليقا اعمى. مع ذلك يمكن توقع بعض الاشياء، فان سطوة الولايات المتحدة بوصفها قوة عسكرية واقتصادية وسياسية، لن تُدمر او يعتريها ضعف خطير في هذا النزاع. 11 ايلول (سبتمبر) 2001 لم يدمر اميركا، وما كان هدفه تدميرها كقوة بقدر ما كان يهدف الى تعبئة الدعم ضد حلفائها في الشرق الاوسط. وترتب على الحدث غضب الشعب الاميركي وتصميمه. وبصرف النظر عما يحدث لائتلاف الدول، الغربية وغيرها التي تؤيد اميركا، فان هذا الائتلاف سيصمد: التحالفات مرنة شأنها شأن الزيجات. وهي يمكن ان تصمد بوجه مواقف الرفض والاختلاف وما يغالى في تسميته بـ«التصدع في الحافات». الانحدار في الاقتصاد العالمي، الذي يمكن ان يدوم سنوات، سيواجه بادارة اقتصادية ماكروية (كلية) منسقة من جانب الدول المتطورة: يمكن ان يؤدي هذا الى تضخم نتيجة الدعم المالي والنقدي لاقتصاد في طور الركود، ولكنه لن يسفر عن انهيار. ويصح الشيء نفسه على الامن الداخلي: من الجائز تماما ان تكون هناك اعمال ارهابية اخرى، منظمة دوليا او مدفوعة محليا، داخل الدول المتطورة، ولكن هذه المجتمعات والدول ستصمد.

الوضع في مناطق اخرى اقل وضوحا. فبعض البلدان، التي وقعت في معمعات النزاع، يمكن ان تواجه غليانا. وفي العالم العربي فان ديماغوجية المواجهة الثقافية، تؤججها الانتهازية السياسية ولا مسؤولية المثقفين والقادة على السواء، ستكون مسموعة بدرجة كبيرة مضاهية وربما متخطية بكثير تشويه العلاقات الثقافية الذي يُسمع في الغرب. والدول التي لديها اجندتها الخاصة ستستغل الازمة لعزل خصومها، وتدميرهم حيث امكن ذلك، فيما تتظاهر بالتحالف مع الغرب في الحملة على الارهاب.

سيكون من باب العزاء الاعتقاد بأنه ايا تكن كلفة احداث 11 ايلول (سبتمبر) 2001، فان بالامكان احتواء تداعياتها وتعلم بعض الدروس منها. وقد يشك المرء في التوصل الى هذه الحصيلة بسهولة او بسرعة. فان جذر الازمة فكري من مظاهره غياب التربية الواقعية والثقافة الديمقراطية في طائفة من البلدان بحيث تطغى الكراهية اللاعقلانية ونظرية المؤامرة على النقد المشفوع بالعقل. وما يكرس هذه الازمة تقاعس ولامبالاة الكثير من العالم المتطور في مواجهة اللامساواة والنزاعات التي تحتدم خارج حدوده. ولا يمكن تذليل اي من هذه الظواهر الثقافية والنفسية العميقة وهي لن تذلل بطبخات سريعة.

سيكون العالم محظوظا اذا تجاوز آثار هذه الاحداث وعالج اسبابها في غضون مائة عام. وهذا، بالطبع، ليس زمنا طويلا في عمر التاريخ الانساني لكنه يشير الى ان جرعة قوية من التصميم والوضوح والشجاعة ستكون مطلوبة في الغرب كما في الشرق خلال السنوات القادمة. وفي المقام الاول سيكون التحلي بالعقل والاصرار على القيم والمعايير الكونية في التقويم ضروريا اكثر من اي وقت مضى. فالمركز يجب ان يصمد.

* الاصطفاف العالمي الجديد

* ثمة ردان متوقعان، وخاطئان على الدوام تقريبا، ازاء اي انفجار عالمي كبير: رد يتمثل في القول ان كل شيء تغير والآخر في القول ان لا شيء تغير. وقد سمعنا الكثير من الاثنين بعد 11 ايلول (سبتمبر) 2001، مثلما طرح قبل عقد او نحو ذلك الموقفان المستقطبان نفسهما بعد الزلازل التي وقعت حينذاك، وهي انهيار جدار برلين وحرب الكويت وتفكك يوغوسلافيا.

11 ايلول (سبتمبر) لم يغير كل شيء: خريطة العالم بدولها الـ200 او نحو ذلك والنمط العالمي للقوة الاقتصادية والعسكرية والتوزع النسبي للدول الديمقراطية وشبه السلطوية والاستبدادية يبقى نفسه الى حد كبير. والكثير من اكبر الاخطار التي تهدد العالم، والعديد من المشاكل الاكثر بعدا عن المعايير التقليدية لسيطرة الدول عليها (البيئة، الهجرة، تجارة المخدرات، مرض الايدز) تعود في تاريخها الى فترة طويلة قبل 11 ايلول (سبتمبر). والمجتمعات الاربعون او نحو ذلك التي تمزقها الحرب، من كولومبيا الى فلسطين، ما زالت تمزقها الحرب. وبمعنى محدد اكثر فان بعض التغيرات التي باتت جلية بعد 11 ايلول (سبتمبر) كانت اصلا في بداية ارهاصها: توكيد ادارة بوش لسطوة الولايات المتحدة وخطابية الصدام الثقافي الصادرة عن مجتمعات غربية واسلامية على السواء وتدخل الدول الاعضاء في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية لتفادي ركود متوقع. ولكن هذا الاقرار بالاستمرارية يقلل من الدرجة التي اعادت بها الهجمات على «وطن» الولايات المتحدة، تشكيل العالم الذي نعيش فيه، او تعد باعادة تشكيله. وأن يكون بعض هذه التغيرات ارتقائيا او اصلاحيا لا ثوريا او اطلاقيا فان هذا لا يقلل من اهميتها. بل يمكن القول ان الاصلاح، بقدر الثورة على اقل تعديل، هو الذي قام في الازمنة الحديثة بالدور الاكبر في اعادة تشكيل العالم. ما زال الوقت مبكرا، والصراع الذي سلط 11 ايلول (سبتمبر) الضوء عليه لكنه لم يفجره، سيمتد به العمر سنوات طويلة، ولكن، باختصار، هناك على الاقل خمس طرق تغير بها العالم بعد 11 ايلول (سبتمبر)، والعالم الذي كان بوسعنا ان نتوقعه لو لم يحدث 11 ايلول (سبتمبر).

اولا، حدثت زيادة ملحوظة في تركيز السطوة الاميركية وتوكيدها. فالولايات المتحدة الاميركية كانت قبل 11 ايلول (سبتمبر) القوة العالمية المهيمنة بكل المؤشرات الاساسية، مع استثناء جائز هو لعبة كرة القدم، ولكنها لم تكن واثقة كيف تفرض هذه السطوة، مترددة بين مقاربة متعددة الاطراف، كان يحبذها كلينتون، وعملت ادارته بتصميم على اعتمادها، والمقاربة الاحادية التي يفضلها بوش، وهي تختلف عن السياسة الانعزالية، وكانت بوادر هذه الاحادية بادية بما فيه الكفاية في الاشهر القليلة الاولى: رفض بروتوكول كيوتو والتسويف في تحرك منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية لوضع ضوابط على الاعفاءات الضريبية والتملص من اتفاقيات حظر استخدام الاسلحة الكيماوية ونظام الدفاع الصاروخي المضاد للصواريخ والاستهانة بالامم المتحدة على سبيل المثال لا الحصر. 11 ايلول (سبتمبر) ارغم بوش على الرجوع عن بعض هذه السياسات والمماطلة في بعضها الآخر.

ولكن الأهم، أن ما حدث دفع الكثير من بقية العالم إلى محاولة العمل على نحو أوثق مع الولايات المتحدة. وفي هذه الأزمة، جنت واشنطن ثمار سطوتها: عندما انطلقت الدعوة إلى التعاون كان رفضها صعباً. وهنا يكمن ثاني التغييرات الكبرى التي أحدثها 11 أيلول (سبتمبر). فإن بعض حلفاء الولايات المتحدة ابتعدوا أكثر، خاصة المملكة العربية السعودية، لكن المحصلة الديبلوماسية العامة، كانت لصالح الولايات المتحدة. وعززت روسيا تعاونها الاستراتيجي والسياسي مع واشنطن واضعة نصب عينيها مصالحها الخاصة. والصين أيضاً، التحقت بركب الحملة على الإرهاب متسبّبة في قلق البعض في الشرق الأوسط، ممَّن ينظرون إليها بوصفها العضو الدائم الوحيد في مجلس الأمن الذي ليس له ماض كولونيالي.

ولكن في مقابل هذا، تبرز النتيجة الثالثة التي أسفر عنها 11 أيلول (سبتمبر)، وهي تعزيز ائتلاف عالمي من مشاعر العداء للولايات المتحدة بدرجة كامنة، لكنها لم تكن حاضرة قبل 11 أيلول (سبتمبر)، فالأساس الذي يقوم عليه الكثير من النظرية الارثوذكسية في العلاقات الدولية، يتمثل بمفهوم «ميزان القوى»: يعني هذا اصطفاف القوى ليس اصطفافاً متكافئاً، بل وجود آلية تعدل نفسها بنفسها، فإذا أصبحت دولة قوية بإفراط تقيم دول أخرى تحالفاً مضاداً في مواجهتها. وقد حدث هذا رداً على نابليون في العقد الأول من القرن التاسع عشر، وعلى هتلر في أربعينات القرن الماضي. هذه النسخة من موازين القوى لم تكن صالحة في الفترة الممتدة منذ نهاية الحرب الباردة: لم تكن هناك كتلة مضادة من القوى العسكرية أو الاقتصادية، بل بدا أن الجميع يريد الانخراط في معسكر الولايات المتحدة ومؤسساتها الدولية ذات العلاقة مثل حلف شمال الأطلسي (الناتو) ومنظمة التجارة العالمية.

ولكن إذا كانت الدول تنساق، فإن الرأي العام لا ينساق. وعلى مستوى المشاعر الشعبية في عموم العالم، وليس في العالم الاسلامي وحده، فإن نوعاً من الثقل المضاد هو الآن قيد التكوين. ومن هنا، معارضة قسم كبير من أميركا اللاتينية لدعم الحملة الأميركية، والاعتراضات واسعة النطاق في شرق آسيا، وفي الهند المعادية للمسلمين في الأحوال الاعتيادية. وإذ ترتبط هذه الظاهرة ارتباطاً رخواً بالعولمة فهي الأخرى لن تختفي بسهولة.

البُعد الرابع يرتبط بإدارة الاقتصاد العالمي، فإن 11 أيلول (سبتمبر) بدفعه قطاعات هامة من السوق إلى الركود (الطيران، السياحة، النفط، التأمين) وإشاعته قدراً أوسع من عدم ثقة المستثمرين والمستهلكين، صعَّد الاتجاه البادي أصلاً نحو الكساد. وفي مجال الطاقة، تسبّب في هبوط الطلب على النفط ـ هناك الآن طاقة فائضة تبلغ نحو 3 ملايين برميل نفط يومياً، فيما يبلغ إنتاج العالم نحو 75 مليونا. ولم يتسبّب هذا في هبوط أسعار النفط دون أن يلوح في الأفق حد سيتوقف الهبوط عنده فحسب، بل أدى إلى حرب أسعار بين منظمة البلدان المصدرة للنفط (أوبك) والبلدان المنتجة الرئيسية غير الأعضاء في المنظمة (روسيا، النرويج، المكسيك).

على الجانب الاستهلاكي، تجدّد الاهتمام بتقليل الاعتماد على نفط الخليج الذي يضم ثلثي الاحتياط العالمي، ولكنه يُعدُّ الآن منطقة يسودها عدم استقرار دائم (البلدان المنتجة غير الخليجية، لا سيما روسيا ودول بحر قزوين وفنزويلا، تقدم نفسها بديلا). ويبدو أن روسيا نالت بعض ما تبغي، بما في ذلك تعليق أي مشاريع غربية لمدّ أنبوب من قزوين إلى تركيا بعيداً عن سيطرة روسيا. وتعرض دول حوض قزوين، وفي مقدمتها أذربيجان وكازاخستان، تعاونها العسكري والنفطي على الولايات المتحدة، ولكن أنظمة الحكم في هذه الدول ذاتها قد لا تكون بين الأكثر رسوخاً وتوطداً. أما فنزويلا فإن موقعها الاستراتيجي الأمثل في نصف الكرة الغربي يلغيه في الوقت الحاضر غضب الولايات المتحدة على سياسة الرئيس تشافيز الخارجية المستقلة التي اشتملت على توجيه النقد إلى الحملة العسكرية في أفغانستان.

التغير الاقتصادي الأهم هو، في المقام الأول، أن 11 أيلول (سبتمبر) أعاد الدولة، لا سيما الدولة الأميركية، إلى إدارة الاقتصاد العالمي: الثقة الليبرالية الجديدة بالسوق، التي كانت أصلاً مزعزعة، ازدادت الآن تآكلاً بعدما وعدت حكومات العالم المتطور بدعم القطاعات المعتلّة واستخدام آليات التعديل المالي وخفض أسعار الفائدة لمواجهة الأزمة. أحد الأسئلة المفتوحة، هو كيف سيؤثر هذا كله في الانتقال إلى اليورو ابتداء من كانون الثاني (يناير) 2002. فإن ميثاق الاستقرار ينوء من الآن بأعبائه ومن المستبعد أن يبدي الرئيس بوش قلقاً بالغاً مما يلمّ بهذا المنافس المفترض للدولار. ولكن اللافت بحق، هو قلب اتجاه سياسة الدولة في عموم الدول الأعضاء في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية من خلال تدخل المؤسسات المالية الدولية والدولتية.

بمفردات سياسة القوة على المستوى الإقليمي، فإن الإقليم الأشد تأثراً بما حدث هو منطقة غرب آسيا. ويبدو أن باكستان أفلحت في فكّ عزلتها والتخلص من ديون تبلغ مئات الملايين، بالانتقال إلى جانب الولايات المتحدة. وشريطة بقاء نظام الجنرال مشرف، وآفاق بقائه تبدو هذا الأسبوع أفضل منها قبل أسبوع، فإن باكستان ستكون قادرة على التمتع بتحسن العلاقات مع العالم الخارجي. وان استتباب الاستقرار في أفغانستان سيفتح أفق امتداد أنابيب النفط والغاز من آسيا الوسطى جنوباً إلى الموانئ الباكستانية. إيران أيضاً أفادت من التطورات الأخيرة: تحسنت علاقاتها مع بريطانيا وحتى مع الولايات المتحدة، والتقى وزير خارجيتها خرازي نظيره الأميركي كولن باول في نيويورك. إيران لا تريد السيطرة على أفغانستان أو حرق اصبعها هناك، ولكن انتصار التحالف الشمالي، الناطق بالفارسية في الغالب، منحها نفوذاً جديداً هناك، وفي آسيا الوسطى بصفة عامة. فهذه الإمبراطورية تردّ بضربات مضادة.

الوضع بالنسبة للعالم العربي يختلف بعض الشيء، فأي حملة جديدة ضد تنظيم القاعدة، ستتضمن القيام بعمليات مكشوفة أو خفية ضد شبكاتها في بلدين آخرين، الدولة فيهما ضعيفة أو غير موجودة، هما اليمن والصومال. والنظام العراقي، من جهته، يعرف أنه أيضاً قد يكون مدرجاً على قائمة المستهدفين بضربة أميركية: يبدو أن النجاح الذي تحقق في كابل شجع صقور الولايات المتحدة في هذا الشأن. وسيحاول الأوروبيون التخفيف من غلواء واشنطن، ولكن التحرك ضد العراق يجب أن يبقى احتمالاً قائماً. دول الخليج العربية أيضاً في وضع غير مريح إزاء تصاعد مشاعر التأييد لتنظيم القاعدة بين الشباب في السنوات الأخيرة.

أخيراً، ان السياق العام لهذه التغييرات، ولما كان حاصلاً في كل الأحوال، هو سياق العولمة. ففي حين أن 11 أيلول (سبتمبر)، يتحدى بعض جوانب العولمة، وخاصة الإحساس بتفاؤل عالمي متزايد في الثقافة والاقتصاد، وحرية الحركة للمسافرين والمهاجرين، فإنه أتاح أيضاً الفرصة لبحث نموذج من العولمة أكثر عقلانية، وبالتالي ربما يكون نموذجاً أكثر استدامة. وستوضع مؤسسات الإدارة المالية والاقتصادية العالمية الآن على المحك، وتُمنح دعماً سياسياً أكبر. وان طابعاً أشد إلحاحاً يمكن أن يُضفي على مناقشة تحرير التجارة العالمية وتوزيع الثروة توزيعاً أحسن، كما تبدى هذا التوجه في مؤتمر منظمة التجارة العالمية في الدوحة.

ولكن هذه القضايا السياسية تثار في سياق يحدد طائفة أخرى من السجالات والآراء التي تدور حول القيم. والأكثر بداهة بين هذه الاهتمامات هو مسألة الثقافة ومسألة القيم العامة أو النسبية. 11 أيلول (سبتمبر) لم يحسم هذه المسألة، ولكنه وضع المحاجَّة النسبية أو الجماعاتية في موقف دفاعي: من جهة، الدعوى القائلة بوجود تفسير مذهبي أو تقليدي واحد للنص الإيماني دعوى مطروحة للتساؤل، كما أظهرت المناقشة العامة في الغرب وفي الشرق، ومن الجهة الأخرى، ان استحضار الاختلاف لشرعنة أعمال إجرامية أو إنكار المسؤولية والالتزامات الدولية بمفردات الثقافة أمر صعب بعض الشيء.

لقد حدث أيضاً تحول هام له صلة وثيقة بموضوعنا في أعقاب 11 أيلول (سبتمبر)، يتعلق بمن المسؤول عن انتهاك حقوق الإنسان والدفاع عنها. ولفترة طويلة كانت الإجابة أن هذا هو مسؤولية الدول، ولكن «غير الدولة»، أكانت الأسرة والقبيلة والحي ومَنْ أعلنوا أنفسهم ممثلين للمسحوقين، كلهم مسؤولون عن الانتهاكات التي ترتكب ضد حقوق الإنسان، وفي أحيان كثيرة مدانون بارتكابها. والمناظرات التي تدور مثلا حول انتهاك قواعد الحرب أو العنف ضد المرأة أو العنصرية، سلّطت الضوء على مسؤولية الدول والمجتمعات مسؤولية مشتركة عن انتهاكات حقوق الإنسان.

كان هذا كله قد زاده صعوبة، قبل الهجمات على الولايات المتحدة وبعدها، النطاق المتّسع أبداً لما يُسمى «قضايا حقوق الإنسان»: الاهتمام بالحقوق السياسية للأفراد قابله التزام بالحقوق الاجتماعية والسياسية، وامتداداً لذلك بحقوق الجماعات أكانت أمماً أم نساء أم أطفالاً أم لاجئين أو معوقين. يضاف إلى ذلك أن نطاق الاهتمام بحقوق الإنسان، والنشاطية في هذا المضمار، بات يشمل ما كان يعتبر في وقت سابق قضايا منفصلة تنص عليها اتفاقيات جنيف لعام 1949 الملزِمة للدول، والبروتوكولات الاضافية لعام 1977 المتعلقة بالجماعات المعارضة، حول استخدام العنف استخداماً مشروعاً.

ولكن هذه المجموعة من القضايا الأخلاقية والحقوقية المترابطة أظهرت أنه في الوقت الذي لا يمكن لسياسة أن تغفل هذه المسائل، فإن اليقين بأن هناك إجابة بسيطة واحدة منطلقها حقوق الإنسان أو خياراً «أخلاقياً» واضحاً لا خيار سواه، قد يكون يقيناً مضللاً. فالعاملون في توزيع المساعدات الإنسانية، قد يتعين عليهم أن يرشوا أمراء حرب ومجرمي حرب مطلوبين بنسبة من المحروقات والغذاء والدواء. والمعنيون بحقوق الأفراد، لا سيما حقوق المرأة، قد يتعين عليهم أن يتجاوزوا ما يُفترض أنه قيم «أصيلة» أو «تقليدية» في الأديان والجماعات. والحق أن اتخاذ موقف أشد صلابة ونقدية من دعاوى الجماعة ذات الخصوصية والاختلاف قد يكون إحدى النتائج المرغوب فيها التي أسفر عنها ما أثاره 11 أيلول (سبتمبر) من مناظرة أوسع حول حقوق الإنسان.

قيل الكثير عن التحدي الذي طرحه 11 أيلول (سبتمبر) على العولمة. ويمكن الجدال بأنه أيقظ التفاؤل الليبرالي الذي كان في أساس العولمة، وخاصة ما يتعلق بالسفر الآمن، ولكنه قد يكون أيضاً تحدياً يستنهض التزاماً أقوى وأمتن بالعولمة. فهو كان تذكيراً لمن نسوا، في غمرة التفاؤل الليبرالي أو الكوزموبوليتي، أو في حمأة نقد راديكالي شبه فوضوي للمؤسسات العالمية، انه من دون أمن عالمي وأمن تصونه قوى قادرة وحازمة، لن تكون هناك عولمة على الإطلاق. والالتزام بالأمن العسكري، مقترناً بالتزام أوسع، لكنه لا يتزعزع بالقيم الديمقراطية والعلمانية، هو من مقتضيات أي مقاومة طويلة الأمد ضد العدوان الإرهابي. وهذه الرسالة الواعية لكنها تأتي في محلها، قد تكون إحدى النتائج الإيجابية للانفجار الذي وقع في خريف 2001.