عبد الله أنس: بن لادن كثير الحياء وقليل الكلام.. ومسعود امتحنني في القرآن الكريم

الإسلامي الجزائري يروي في كتابه «ولادة الأفغان العرب» قصة الحروب في مدن وجبال أفغانستان

TT

دفعت احداث 11 سبتمبر (ايلول) الماضي ظاهرة «الافغان العرب» الى بؤرة الضوء، لتتصدر واجهة القوى المؤثرة والفاعلة في المشهد السياسي الافغاني.

وعندما يكون الحديث عن «الافغان العرب»، بشهادة احد الذين ساهموا في هذه الولادة، وهو الجزائري عبد الله انس زوج ابنة عبد الله عزام مؤسس مكتب «الخدمات» النواة الاولى لتنظيم «القاعدة» الذي تلاحق واشنطن زعيمه اسامة بن لادن كمشتبه رئيسي في التفجيرات الارهابية التي ضربت الولايات المتحدة، فسيكون له بعد آخر، خصوصا ان أنس يكشف الكثير من خصوصيات العلاقة الحميمة بينه وبين احمد شاه مسعود الزعيم الافغاني الذي اغتاله مغاربيون من تنظيم بن لادن يوم 9 سبتمبر أي قبل يومين من الاحداث الارهابية في اميركا.

ويروي عبد الله أنس، أحد أوائل العرب الذين التحقوا بـ«الجهاد الأفغاني»، تجربته في أفغانستان في فصول ثمانية من كتابه «ولادة الافغان العرب» الذي اصدرته دار الساقي بلندن، وقصة التحاقه بالجهاد في بداية الثمانينات، وتعرّفه الى الشيخ الفلسطيني عبد الله عزام، الأب الروحي للعرب الأفغان، ثم انتقاله الي داخل أفغانستان والتحاقه بأحمد شاه مسعود، أسد بانشير وتحوله الى يد يمنى له.

وقبل ذلك، يتحدث انس، اللاجئ السياسي في بريطانيا منذ ثمان سنوات، في 152 صفحة، عن لقائه بالمجاهدين العرب الاوائل في باكستان قبل الانتقال الى العمق الافغاني للمشاركة في القتال ضد الروس. ويذكر ان البداية الحقيقية لعلاقته بعبد الله عزام كانت في حج عام 1983، فأمام بئر زمزم رأى رجلا يتوضأ بالماء المباركة في الحرم المكي ومعه اولاده، و«تقدمت منه وسألته هل انت عبد الله عزام، فقال نعم». ودار حوار بين الرجلين، انتهى باعطاء عبد عزام رقم هاتفه في اسلام اباد الى انس، قائلاً له «عندما تأتي سأقدمك الى زعماء الافغان في بيشاور بعد انتهاء موسم الحج».

وبعدها باسبوعين يلتقي «بوجمعة» عبد الله انس في منزل عزام البروفسور في الجامعة الاسلامية باسلام اباد على العشاء بمجموعة من الضيوف من بينهم بن لادن زعيم «القاعدة» فيما بعد، الذي يقول انس عنه انه لفت انتباهه لكثرة حيائه وقلة كلامه.

ويضفي المؤلف الكثير من الصفات على عبد الله عزام فيقول عنه: «لقد كتب لي ان اتعرف على الكثيرين من الخيرين من هذه الامة، ولا أكون مبالغا اذا قلت انني لم ار رجلا اجتمعت فيه صفات ومؤهلات كالتي اجتمعت في الشيخ عبد الله عزام، وهي صفات ومؤهلات يكفي وجود واحدة منها في الشخص كي يكون متميزا بين اقرانه».

ويذكر المؤلف أن الشيخ عزام هو الذي سماه «عبد الله انس»، اذ كان يقدمه الى المجاهدين في بيشاور بقوله «هذا انس.. عبد الله انس»، بدل اسمه «جمعة».

ويتعرض المؤلف الى الانطلاقة الثانية للجهاد الافغاني في فترة كانت حافلة بالمتغيرات في افغانستان بدأت بمقتل الرئيس الافغاني داود وعائلته في 28 ابريل (نيسان) 1978، والاعلان عن تعيين نور محمد زعيم حزب «خلق» الشيوعي رئيسا لافغانستان بتاريخ اول مايو (ايار) من العام نفسه. لكن حكم هذا الأخير لم يدم اكثر من ستة شهور حين اطيح به من قبل الرئيس حفيظ الله امين 16 سبتمبر 1979. وكانت هذه الفترة، حسب عبد الله انس، فترة مخاض، دفعت سكان كابل الى النزول الى الشوارع احتجاجاً على النظام الشيوعي الذي قام بقتل نحو عشرة الاف من سكان العاصمة الافغانية. وكادت هذه الاحداث ان تعصف بالنظام الشيوعي الحاكم مما ادى الى تعجيل الاتحاد السوفياتي باجتياح افغانستان في 27 ديسمبر 1979، والاعلان عن تنصيب بابراك كارمل خلفا لحفيظ الله امين الذي اعلن عن وفاته بعد ثلاثة ايام من الاجتياح السوفياتي. وفي الفصل الاول المعنون بـ«اللقاء بعبد الله عزام» يقول المؤلف ان الاجتياح السوفياتي دفع علماء افغانستان الى اصدار فتوى توجب الجهاد على الشعب الافغاني، وكانت هي الشرارة التي فجرت البلد ومن بعده العالم الاسلامي. وقد قرأ هذه الفتوى في مجلة «المجتمع» الكويتية في مدينة بلعباس الواقعة على بعد 450 كيلومترا غرب العاصمة الجزائر. وكانت موقعة من قبل الشيخ ابن باز من السعودية، وآخرين من مصر وبلاد اسلامية أخرى.

* اللقاء مع مسعود

* ويروي عبدالله أنس، في 12 صفحة من كتابه قصة لقائه الأول مع أحمد شاه مسعود في جبال الهندوكوش التي بدأت عندما طلب منه الأخير تلاوة بعض الآيات القرآنية، فتلا عليه جزءاً من سورة آل عمران، فأُعجب بتلاوته الزعيم الأفغاني وطلب منه البقاء معه، وهو ما حصل حتى دخول مسعود كابل وسقوط نظام نجيب الله في 1992.

وكان الجهاد قد أُعلن في أفغانستان اثر دخول القوات الروسية هذا البلد عام 1979. لكن المعركة الأولى لم تبدأ في ذلك العام، اذ ان الجهاد الأفغاني مرّ بمرحلتين: الأولى مرحلة قيام الحركة الاسلامية في جامعة كابل بزعامة برهان الدين رباني والبروفسور عبد الرسول سياف وقلب الدين حكمتيار والمهندس حبيب الرحمن والمهندس أحمد شاه مسعود. ثار هؤلاء علي نظام داود، ولكن لم يُكتب لهم النجاح. واتفقوا بعد فشل حركتهم مع ذو الفقار على بوتو، الزعيم الباكستاني، على ان يساعدهم في الرجوع الى داخل بلادهم لمقاومة نظام داود الذي كان وصل الى السلطة بانقلاب عسكري على الملك ظاهر شاه عام 1973. وهكذا التقت مصلحتان: مصلحة الأفغان المسلمين الذين يريدون مقاومة النظام الشيوعي، ومصلحة بوتو الذي أراد ان يحارب النظام في كابل من خلال هؤلاء لمصالح حدودية، ولمصالح البشتون في المنطقة التي يسكنونها والمعروفة باسم بشتوشستان.

ويكشف انس في فصل «العرب في جبهات مسعود» الكثير من فصول المعاناة في ايام الجهاد الاولى في وادي بانشير، ويتحدث عن رحلته الى شمال افغانستان برفقة اعضاء جماعة «الجهاد» المصرية علي امين الرشيدي «ابو عبيد البنشيري» احد مؤسسي تنظيم «القاعدة»، غرق في بحيرة فكتوريا عام 1996، ومحمد عاطف ابو حفص المصري مسؤول القاعدة حتى اغتياله في الغارات الجوية على كابل اكتوبر (تشرين الأول) الماضي، وابو دجانة. ويقول انه اشترط عليهم منذ البداية ان يدخلوا افغانستان بعيدا عن الاطار التنظيمي، اي ان يكونوا تحت امرة قائد افغاني مثل مسعود، ووافقوا حينها على ذلك. وكانت القافلة تضم 30 عربيا، ثم انقسمت الى مجموعتين. وضمت مجموعة أنس افرادا اشتهروا في ما بعد مثل ابو حفص المصري وابو عبيدة الذي لم يكن معروفا بالبنشيري حتى ذلك الوقت. وبما ان ابو حفص المصري كان مصابا في غضروف الركبة فلم يستطع اجتياز الجبال العالية، ولم يكمل الرحلة وعاد الى بيشاور، ولكن ابو عبيدة وابو دجانة واصلا الطريق حتى وادي بانشير. وكانت قوافل المجاهدين تأتي من داخل أفغانستان بالمئات، وأحياناً بالآلاف، من دون سلاح. ثم تتولى الحكومة الباكستانية الاشراف على تسليحهم وتدريبهم. وكانوا يتوزعون على سبعة أحزاب أكبرها اثنان: الحزب الاسلامي بزعامة قلب الدين حكمتيار والجمعية الاسلامية بزعامة برهان الدين رباني. وكان هذان الحزبان القوة الضاغطة الأساسية داخل افغانستان.

وبعد أن ينتهي تدريب المجاهدين وتسليحهم داخل باكستان تبدأ الرحلة الى الداخل. كانت كل قافلة تضم 200 ـ 300 مقاتل. ومن هذه القوافل: قافلة جيلاني، وقافلة محمد نبي، وقافلة حكمتيار، وقافلة سياف. وكانت القافلة التي توجهت الى مزار الشريف تابعة للجمعية الاسلامية بزعامة برهان الدين رباني. ومن بين أفرادها كان هناك ثلاثة عرب فقط: السوري أبو أُسيد، والكويتي ضياء الرحمن، وعبد الله أنس. ويروي عبد الله أنس قصة الخروج الروسي من أفغانستان واغتيال الشيخ عبد الله عزّام في بيشاور مع طفليه بسيارة مفخخة أثناء ذهابه لصلاة الجمعة. كان العام 1989 عام الأحداث الضخمة في أفغانستان. ففي مطلعه، هزم الجيش الأحمر وخرج الاتحاد السوفياتي من المستنقع الأفغاني. وكان انس شاهداً على هذا الحدث: «يومها كنت أقف على مرتفع بسيط في منطقة تقع بين بانشير وباروان. حملت منظاراً أراقب من خلاله آخر الدبابات والعسكريين الروس يودعون الأراضي الأفغانية عائدين الى بلادهم. كانت فرحتي لا توصف. فهذا الجهاد الذي بدأ بالعصي والخناجر والحجارة، وصل الى الحد الذي هزم فيه أقوى قوى الأرض تسليحاً، وها أنت تراها بعينيك تجر أذيال الخيبة راجعة الى الاتحاد السوفياتي. وما أزال أذكر أن الروس ودّعوا منطقة بانشير، وهم منسحبون، بقصف جوي نفّذته أسراب من طائراتهم. قصفوها حقداً. فهي المنطقة التي هزمهم فيها أحمد شاه مسعود وألحق بهم أذى شديداً وكبّدهم خسائر لا تُحصى، وصار يُعرف بعدها بـ«أسد بانشير» (أسد الأسود الخمسة)، وهو لقب كان الصحافيون الفرنسيون أول من أطلقه عليه عندما سمّوه لو ليون دو بانشير.

تجولت في المنطقة بعد انسحاب الروس. كنت كيفما تطلعت ترى دبابات وشاحنات عسكرية روسية مدمرة أو محروقة. صرت أعدها. ظللت أعدها طوال يوم كامل. دبابة، اثنتان، ثلاث... حتى وصل العدد الى ألف دبابة وشاحنة مدمرة في بانشير. وزار الشيخ عبد الله عزّام المنطقة بعدها. تجوّلت واياه من أولها الى آخرها. وقال لي عبارة لا أنساها: أخشى أن تتعرض هذه الشاحنات والدبابات، هذا الشاهد التاريخي، للتلف نتيجة الأمطار والثلوج. سأعطيك مبلغاً من المال لتدهنها كلها بالرصاص لئلا تؤثر فيها الأمطار وتبقى معلماً للأجيال».

لكن ذاك العام أيضاً حمل فاجعة كبيرة لأفغانستان تمثلت باغتيال المحرك الأساسي للقضية الأفغانية في العالم الاسلامي عبد الله عزام.

* الكتاب: «ولادة الأفغان العرب » عبد الله أنس بين مسعود وعبد الله عزام

* المؤلف: عبد الله أنس

* الناشر: دار الساقي =