نقاد العولمة يدعون إلى التجارة العادلة بدل التجارة الحرة

إذا تركنا الربح يتحكم في التجارة فإننا سننتهي إلى دمار

TT

كان أحد أهم الأسباب وراء ما شهده العالم من احتجاجات دامية ضد منظمة التجارة العالمية، غياب مبدأ «التجارة العادلة» في التعاملات التجارية في عالم اليوم الذي تسيطر عليه الشركات الكبرى العابرة للقارات والمتعدية للحدود. فالمنظمات غير الحكومية وتجمعات الهيئات الداعية إلى حقوق الإنسان تدعو إلى تبني مفهوم «التجارة العادلة» عوضاً عن «التجارة الحرة» الذي يمثل الركيزة الأساسية للمنظمة ولنهج الاقتصاد العالمي الراهن. لكن ما هو الفرق بين الإثنتين، وهل يستحق كل هذا الغضب الذي رأيناه في جنوى كما رأيناه في السابق في سياتل وواشنطن وبراغ وغوتنبرغ وغيرها حيث اجتماعات البنك الدولي، أو صندوق النقد الدولي، أو منظمة التجارة العالمية؟ الجواب الذي يقدمه ديفيد رانسوم في هذا الكتاب هو نعم هناك فرق بل وفرق كبير بين التجارة الحرة والتجارة العادلة، وأنه ما لم يتجه العالم بجدية إلى الانتقال من الأولى إلى الثانية فإن عالمنا سوف يظل يشهد تعاظم فقر الفقراء إلى جانب تعاظم غنى الأغنياء. التجارة الحرة تعني فتح الحدود أمام انتقال البضائع والمنتوجات بين الدول وشطب التعرفات الجمركية بحيث تستطيع أي سلعة منتجة في أي بلد في العالم أن تدخل أي بلد آخر من دون أن يزداد ثمنها، وبالتالي تنافس المنتجات المحلية الشبيهة في ذلك البلد على قدم المساواة. والمعنى العملي لهذا المبدأ أن منتجات الدول الصناعية الكبرى، العالية الجودة، تستطيع الدخول إلى أسواق الدول النامية وتنافس منتجاتها المتدنية الجودة بأسعار متقاربة الأمر الذي يؤدي إلى اختفاء المنتجات المحلية وإغلاق المصانع والشركات المحلية وزيادة البطالة.

* السوق المعولمة

* في المقابل فإن منتجات البلدان النامية تستطيع الدخول إلى أسواق البلدان الصناعية والمنافسة هناك، إن استطاعت من دون أن تحظى باجراءات حمائية من قبل تلك الدول. وهذا كله من ناحية نظرية طبعاً، لأن ثمة تحفظات واستثناءات كثيرة سنأتي عليها لاحقاً خاصة فيما يتعلق بالمنتجات الزراعية التي تنتج في البلدان النامية وما زالت ممنوعة عملياً من الدخول إلى أسواق العالم الغربي. خلاصة ذلك أن التجارة الحرة توفر للشركات «سوقا معولمة» وموحدة أفضل بكثير من السوق المحلية المحدودة وأكثر ربحية. ولأن المحفز الأساسي والوحيد لهذه السوق المعولمة هو جني الأرباح وتعظيمها فإن الاهتمام بآثارها السلبية إن من ناحية انعكاسها على الشرائح الأفقر في المجتمعات، أو زيادة عدد العاطلين عن العمل، أو تدمير الصناعات المحلية، هو إهتمام قليل.

أما التجارة العادلة فهي مبدأ لا يتوجه إلى الربحابإعتباره المحفز الرئيسي والوحيد بل ينظر إلى الاعتبارات الأخرى التي يهملها مبدأ التجارة الحرة. وهو المبدأ الذي يطرحه نقاد العولمة الراهنة التي يرون فيها خضوعاً كاملاً لنظرية السوق لكن على مستوى معولم يشمل كل الدول والمجتمعات. وفي سياق هذه التجارة تأتي أفكار تطرحها أنيتا روديك، مؤسسة شركة «بودي شوب» (Body Shop) المشهورة لأدوات التجميل، والتي تقول بأننا إذا تركنا «الربح» هو الذي يتحكم في التجارة فإننا سننتهي إلى دمار فظيع للمجتمعات الفقيرة وللبيئة وللقيم. وهي تدعو في المقابل لما تسميه «التجارة المجتمعية» (Trade Communities)، التي ترتكز على مبدأ المشاركة بين الشركات الكبرى العملاقة والمجتمعات المحلية بحيث تقيم تلك الشركات مشروعاتها على أسس تفيد منها المجتمعات والأفراد والعوائل وتكون هذه الأسس، أي خدمة المجتمع المحلي، مكوناً أساسياً للعمل التجاري. ومبدأ المشاركة هذا تطبقه شركة الـ«بودي شوب» في عدد من البلدان الأفريقية حيث تستورد أو تصنع بعض العناصر الأولية من منتوجاتها وأعطى نتائج ناجحة. والواقع أن هذه الشركة تعتبر من الحالات القليلة والفريدة التي تحظى بسمعة إنسانية في منظورها للعمل التجاري سواء لناحية اهتمامها بالمجتمعات المحلية الفقيرة أو حرصها على البيئة.

* الديمقراطية والتجارة الحرة

* يقول ديفيد رانسو ان فكرة عزل الأخلاق والقيم عن التجارة التي سادت في القرون الأخيرة أعطت «السوق» سلطة لا تخضع لأي محاسبة. ونشأ وضع يتميز بتناقض جوهري كالآتي: في التجارة الحرة إذا سألنا من هو المستفيد الأكبر، وإذا سألنا من نحاسب في حال حدوث انعاكسات سلبية على المجتمع أو البيئة أو أي مجال «غير ربحي آخر»، فإننا نجد أن جواب السؤال الأول هو الأقوياء والأغنياء، بينما جواب السؤال الثاني هو لا أحد. أي ان المستفيدين الأول لا يخضعون للمحاسبة والمراقبة في حال تردي الأوضاع، ومنها يستنتج رانسوم أن «عدم العدالة» متضمن أصلاً في تعبير «التجارة الحرة»، وهذا ضد الديموقراطية على طول الخط.

* أفكار قابلة للتطبيق

* على أن ذلك يجب أن لا يدعو للإحباط المطبق أو الإستسلام. ففي نهاية المطاف تظل «التجارة الحرة» و«السوق» أفكارا ابتدعها الإنسان ويجب أن تظل خاضعة لإرادته وأن لا ينظر إليها على أنها قوى غير متحكم فيها، بل تتحكم في الإنسان ومستقبله. والأهم من ذلك، كما يستعرض رانسوم في كتابه هذا أن «النظرية البديلة» «التجارة العادلة» ليست خيالية أو طوباوية أو غير قابلة التطبيق. فمن ناحية أولى تظل التجارة تبادلية المنفعة في قلب هذا المبدأ، أي أنه تعديل في الرأسمالية وليس ثورة ضدها. وهي بكل الأحوال ليست فكرة جديدة أو انفعالية ظرفية وليدة الأعوام الأخيرة، بل تعود جذورها إلى تواريخ نشوء نظريات السوق والتوسع الرأسمالي مع أن تشكل مجموعات منظرين وعلماء يؤمنون بها ويدعون إليها تأخر حتى سبعينات القرن الماضي. والمهم في هذا التأريخ أن فكرة التجارة العادلة ليست ردة فعل سريعة على العولمة الاقتصادية الراهنة، بل هي أعمق من ذلك بكثير. إضافة إلى ذلك فإن سلبيات إطلاق اليد للرأسمال المعولم عبر توغل التجارة الحرة تطال كل الأطراف. الدول التي يتناول الكتاب حالاتها واحدة إثر الأخرى هي المكسيك و البيرو وغانا,و الكاريبي والتي تظهر بوضوح أن تطبيق التجارة الحرة على المستوى الدولي من دون ضوابط ومقيدات إنسانية واجتماعية معناه دفع أكلاف باهظة سواء آنية أو مستقبلية تتعدى الحدود القومية للبلدان التي تعاني من ضغوط التجارة العولمية الحرة. ولعل أبسط مظاهر «تصدير» المشكلات في هذه البلدان يتمثل في الهجرة غير الشرعية للعمالة الكبيرة العاطلة عن العمل في المكسيك.

* الكتاب: التجارة العادلة No-none Sense Guide to Fair Trade

* المؤلف : ديفيد رانسوم

* فيرسو، لندن، 2001

* خدمة «كمبريدج بوك ريفيرز» =