الوجود اليهودي في المغرب والتعايش مع الحضارة العربية الإسلامية

كتاب «محاولات في التاريخ والحضارة اليهودية المغربية» يؤكد وجود «يهودية مغربية» خاصة نضجت في لحظات التسامح الثقافي

TT

يمكن اعتبار كتاب «محاولات في التاريخ والحضارة اليهودية المغربية» لمؤلفه شمعون ليفي، كتابا مهما من اكثر من ناحية، ذلك ان مؤلفه لا يتردد في الافصاح عن هويته اليهودية وعن مغربيته في الآن معا، والاكثر من ذلك ان بسطه لهذه الهوية لا يتأتى من موقع دفاع ومناصرة او من احساس بعقدة «الدونية» والهامشية، بل من اعتقاد راسخ من ان هذا الوجود اليهودي بأرض المغرب، ساهم الى جانب عناصر ثقافية اخرى في إرساء وبلورة حضارة تعايشية طيلة أزمان جنب الحضارة العربية الاسلامية، وبموازاة العنصر المسيحي الذي ظل وجوده لا يراوح المكان.

والاهمية الثانية للكتاب ان صاحبه، مواطن مغربي مشارك، وله حضور في الحياة السياسية طيلة فترة من تاريخ الصراع الاجتماعي والسياسي، من موقع تقدمي ويساري، وظل من سنة 1957 الى حدود سنة 2001 عضوا في اللجنة المركزية لحزب «التقدم والاشتراكة»، ومسؤولا في مكتبه السياسي طيلة ثلاثين سنة، كما يشغل مسؤولية الكاتب العام لمؤسسة «التراث الثقافي اليهودي المغربي» ويدير المتحف اليهودي المغربي بالدار البيضاء.

أما الاهمية الثالثة للكتاب، فتكمن في المقارنة الشمولية التي يتبناها المؤلف من حيث الحاحه على «الأثر» العبري في الثقافة الشعبية المغربية وفي مظاهرها اللغوية والاجتماعية والسياسية. هذا «الاثر»، وهذا الحضور الذي تداخل منذ الزمن الفينيقي والروماني مرورا بالدولة الادريسية والموحدية والمرينية، وصولا الى الحضور اليهودي القوي في القرن السابع عشر، في عهد الحماية الفرنسية.

من الطريف جدا، ان المغاربة في اوقات لاحقة، كانوا ينظرون الى اليهود باعتبارهم «إفرنج» او فرنسيين، ويخاطبونهم بالفرنسية حتى ولو كان المتكلم اليهم يتكلم عربية فصيحة وسليمة، ومن المثير ايضا ان حضورهم الجغرافي والبشري، شكل في بعض المناطق استثناء ملفتا للانتباه حيث انهم اما شكلوا اغلبية مطلقة، كما كان عليه الحال مثلا في قرية «دبدو»، حيث نجد انه من بين 2000 نسمة من اليهود، لا يقابلهم الا 500 نسمة من المسلمين، وهذا الاستثناء يكاد ينسحب حتى على مدن مثل الصويرة التي كان يشكل سكانها مناصفة ما بين اليهود والمسلمين، ومدينة الجديدة وواحات واد درعة والاطلس الكبير وفاس ومكناس، وفي وقت لاحق مدينة الدار البيضاء التي ما يزال يوجد بها حي يهودي خالص.

بالنظر الى هذا الوجود اليهودي المتشاكل مع الوجود العربي، كانت بعض المناطق ممسوحة نهائيا من الحضور البشري اليهودي، مثل سهل الغرب والشاوية ودكالة.

ولعل شمعون ليفي في محاولته لتأريخ الحضور اليهودي المغربي، كان مدفوعا بفرضية اثبات وجود تلاقح حضاري وتمازج و«تعايش»، وهي الفرضية الثاوية والمقيمة بين أسطر الكتاب، او المعلنة في هيئة وقائع واحداث واحكام، حيث يتوسل بماضي التاريخ حينا، ويعود الى الحاضر حينما يبرز الدور الوطني لليهود المغاربة في اجلاء المستعمرين الفرنسي والاسباني.

انه يعتبر من نفس المنطق، ومن ذات الرؤية، ان هناك بعدا آخر للثقافة الشعبية المغربية، هذا البعد، هو البعد اليهودي، ويصر على ان هناك «يهودية مغربية» خاصة، اندمجت في السياق الثقافي والديني العام ونضجت في لحظات «التسامح الثقافي» الذي ميز فترات من تاريخ المغرب.

وهو حين يأتي على هذه النقطة يوسع من دائرة استدلالاته العلمية، ويقدم الفرضيات والافتراضات مشفوعة بالدراسة العلمية المقارنة ومن الاركيولوجيا والدراسات اللسانية والصوتية والفنمولوجيا، ليكشف كيفية انتقال مفردات من اللغة العبرية الى العربية، والتغيرات التي اصابتها جراء هذه «الهجرة» من مكون لساني الى مكون لساني آخر.

ويشكل هذا الموضوع الجزء الوافي والاكبر من صفحات الكتاب، وهو ما يعني ان الخطاب النظري والتأطيري الفكري والمسايقة الاجتماعية والسياسية التي انشغل بها في الجزء الاول من كتاب «محاولات في التاريخ والحضارة اليهودية بالمغرب»، لم تكن لتجد مرتكزها وقوتها الاستدلالية والبرهانية، او لم يكن لها ان تصبح «ذات موضوع» الا في الجزء الثاني «العلمي» والبرهاني، في منأى عن احكام القيمة والتبريرات الواهية والانشائية، يقول شمعون ليفي في ص 16 من الكتاب، وفي موقف مبطن «اللغة في نفس الآن تواصل وتعبير، ابداع جماعي، وهي مليئة بالنفسي، وبخطوط خاصة للمجموعة المتكلمة، وفي حالة الاقليات او المهاجرين، تصبح ملجأ وملاذا للهوية».

نشير الى ان المتكلمين اليهود انقسموا الى ثلاث مجموعات: هناك مجموعة كانت تتكلم الامازيغية وكانت تقطن بالاطلس، ومجموعة كانت تتكلم الاسبانية وكانت تقطن بالشمال، ومجموعة تتكلم اللغة العربية او الدارجة المغربية، بينما ظلت اللغة العبرية لغة عالمة، ولغة الخاصة، وبالتحديد لغة النساء، او لغة البيت، ذلك ان اليهودي المغربي كان يعيش هذا الازدواج ما بين لغة «العمل» ولغة المنزل والاسرة.

واذا كان كثير من اليهود المغاربة كما يقول الدكتور محمد شفيق في تقديمه للكتاب، قد حلقوا خارج السرب وغنوا من اجل «النزعات الصهيونية»، فان شمعون ليفي برأيه، قد يبقى مرتبطا ومخلصا لجذوره المغربية، من خلال تجربته الشخصية في العمل السياسي، ومن خلال النضال من اجل ارساء دولة الحق والقانون، وايضا من خلال ابحاثه العلمية منذ اول اطروحة جامعية له حول اللسان العربي ليهود المغرب، والتي اغناها بعد ذلك بدراسات مقارنة اخرى، بينت على ان افضل طريقة لتربية الاجيال هي منحها جذورا وأجنحة.

يمكن الذكر اخيرا ان الحضور اليهودي المغربي، وان قل بسبب عدة عوامل من اهمها الهجرة نحو اسرائيل، فان ملاحاتهم وميعاراتهم، لا تزال شاهدة عن حضور كان، وما زال، اذ تكفي الاشارة ان المغرب يحتوي على اكثر من 400 مزار وولي من اولياء اليهود، والذين يحجون اليهم سنويا، كما يمكن الذكر ان هذا الحضور لم يقتصر على الاوساط الشعبية او التجارية، بل توغل في الاوساط المدنية، وكان قريبا من حكومات المغرب ومن السلطان، كما كان دائما، وكما هو عليه اليوم، وفي ذلك من الوثائق التاريخية ما يعجز عن حمله بعير.

* الكتاب: محاولات في التاريخ والحضارة اليهودية المغربية

* المؤلف: شمعون ليفي

* تقديم: محمد شفيق

* الناشر: مركز طارق بن زياد ـ الرباط =