تقنيات الفضاء وأثرها على التنمية

TT

* المشرف على معهد بحوث الفضاء مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية

* قد يتساءل البعض منا لماذا نحتاج إلى الفضاء وتقنياته، إنه بعيد جداً؟، ويعتقد البعض أن الدول المتقدمة تتنافس في هدر أموالها في استكشافه، كما يتحدث البعض كثيراً بأنه يجب على الدول النامية التركيز في صرف مواردها المعدودة والمثقلة بالدين العام على ما له صلة مباشرة بحياة المواطن اليومية مثل التعليم والصحة والخدمات: (الكهرباء والطرق والمياه والنظافة وغيرها من الخدمات الأساسية).

لو نظرنا يبدو أن هذا الاستنتاج منطقي ومعقول، لكن بإمعان أكثر عمقاً، يتبين أن الفضاء أقرب بكثير مما يعتقد البعض، بل ان معظم متطلبات واحتياجات المواطنين الأساسية تعتمد وبشكل أساسي ومتزايد على تقنيات الفضاء. مثل تقنيات الأقمار الاصطناعية الخاصة بـ (الاتصالات ومراقبة الأرض والارصاد والملاحة الجوية)، وما يتعلق بها والتي أصبحت ضرورية في حياتنا اليومية.

فعلى سبيل المثال، فإن جميع الخدمات الأساسية تستفيد من ربط البيانات بالصور الفضائية من أقمار (الاستشعار عن بعد وتحديد المواقع)، ونقل هذه المعلومات من موقع إلى آخر بسرعة عالية عن طريق شبكات اتصالات تستخدم الأقمار الاصطناعية.

فيمكن الاستفادة من تقنيات الفضاء في الكشف عن الثروات الطبيعية كالبترول والمعادن والمياه واستغلالها، ومراقبة إنتاج المحاصيل الزراعية وتصنيفها، والتخطيط الحضري للمدن والقرى، والتعليم والطب عن بعد ودراسة البيئة وانتشار الأوبئة وحمايتها، ومراقبة وإدارة الكوارث الطبيعية كتسرب بقع الزيت والسيول، علاوة على كثير من التطبيقات الأمنية والعسكرية.

وأدى التطور في تقنية الأقمار الاصطناعية واستخداماتها للأغراض السلمية الى اهتمام الكثير من الدول النامية بتقنيات الفضاء وأنشأ العديد منهم هيئات تعتني بجميع ما يتطلبه هذا المجال ومن ضمن هذه الدول عدد من الدول العربية والإسلامية (مصر وسورية والمغرب وماليزيا واندونيسيا)، كما قامت بعض الدول مثل تركيا وتشيلي ونيجيريا بإنشاء هيئات وطنية للفضاء هذا العام.

أما المملكة العربية السعودية، فقد بدأت قبل عشرين عاما أي عام 1983، بإنشاء المركز السعودي للاستشعار عن بعد بمدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية، والمشاركة الفعالة للأمير سلطان بن سلمان بن عبد العزيز في رحلة المكوك ديسكفري عام 1985، وأُنشئ معهد بحوث الفضاء عام 1998، الذي يضم إضافة إلى المركز السعودي للاستشعار عن بعد مراكز أخرى وهي مراكز تقنية (الأقمار الاصطناعية، الطيران، ونظم المعلومات الجغرافية، وتطبيقات الليزر، والدراسات الرقمية)، وأخيراً انضمت المملكة إلى لجنة استخدام الفضاء الخارجي التابعة للأمم المتحدة عام 2001، كعضو دائم. وتعتبر محطة استقبال الصور الفضائية التابعة لمعهد بحوث الفضاء بمدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية من أكبر المحطات على المستوى العالمي بالنسبة لاستقبالها معلومات من عدة أقمار مراقبة الكرة الأرضية والارصاد في وقت واحد ومجهزة لاستقبال صور الأقمار التجارية الأميركية والفرنسية والكندية والهندية من أحدثها القمر الأميركي ايكونس الذي يلتقط صوراً بدقة متر واحد.

والعمل قائم على إعداد قاعدة متكاملة للمعلومات الجغرافية وربطها بشبكة وطنية تسهل للقطاعات الحكومية والخاصة الاستفادة منها وبشكل سريع.

أنشئ في معهد بحوث الفضاء برنامج سعودي سات الخاص بتصميم وتطوير وانتاج الأقمار الاصطناعية وإطلاقها وتشغيلها، وتم إنتاج الجيل الأول منه وهو سعودي سات ـ 1، وأطلق منه قمران بواسطة الصاروخ الروسي دينير في 26 سبتمبر (أيلول) عام 2000. وهما قمران لاستقبال المعلومات وتخزينها وإعادة إرسالها إلى المحطة والقيام بعدد من التجارب العلمية وهما يعملان على أكمل وجه ويتم الاتصال بهما يومياً، كما يتم التعاون مع الجهات الحكومية للاستفادة منهما في نقل المعلومات من أجهزة القياس التي تعمل في المناطق النائية في السعودية.

إن اتساع رقعة المملكة والبعد بين مدنها والنهضة الحضارية التي تعيشها تحت ظل حكومة خادم الحرمين الشريفين وولي عهده الأمين والنائب الثاني حفظهم الله، يظهر الحاجة الماسة لتلبية الخدمات المبنية على تقنيات الفضاء، لأن القدرات والكفاءات العلمية المؤهلة متوفرة وما نحتاجه هو تقديم الخدمات الفضائية وإنشاء الصناعة الفضائية الوطنية، وهذه ليست بالمهمة السهلة. وأهم العوائق الرئيسية تردد رجال الأعمال في الاستثمار في المجالات التقنية المتقدمة على المستوى الوطني، بدلا مما نراه من مشاركات ومساهمات في الاستثمارات الخارجية، ويصاحب ذلك تردد من قبل الجهات الحكومية لدعم مثل هذه الصناعة بسبب الوضع المالي، مع العلم أن هناك دولا مثقلة بالديون وفقيرة مثل البرازيل واندونيسيا وتركيا والفلبين وغيرها تمتلك أقماراً اصطناعية توفر خدمات الاتصالات بأنواعها والبث المباشر محلياً وإقليمياً وبأسلوب تجاري بحت، ولكي يتمكن القطاع الخاص من بناء مشاريع وطنية توفر خدمات الاتصالات والبث المباشر وغيرها، لا بد من تقديم حوافز كافية من قبل الدولة وذلك بشراء احتياجات ومتطلبات الجهات العسكرية والأمنية والمدنية بشرط أن تكون أسعار الخدمات منافسة لمثيلاتها وهذه المشاريع تعتبر مصدرا لاستقطاب التقنيات وتصنيعها وفرصة لا تعوض لتوظيف الشباب السعودي، كما أنها تساهم في الحفاظ على المستوى العلمي وإجراء الأبحاث التطبيقية في هذا المجال، واليوم تعتبر الظروف ملائمة وأهمها أن الكوادر العلمية المؤهلة متوفرة وقد لا تتوفر في المستقبل ونحتاج إلى عقود من الزمن للمحاولة مرة أخرى.

وبالنظر إلى الجانب الاقتصادي، نجد ان دول أوروبا ودول الشرق الأقصى التي ليست لها موارد طبيعية اقتصادية، يعتمد اقتصادها اعتماداً كلياً على التقنية وتطبيقاتها، وباختصار من وجهة نظري فإن البديل الوحيد للبترول كمصدر دخل للسعودية هو تقديم الخدمات المبنية على التقنية واستغلال التقنية في التصنيع بجميع أنواعها. وأطلب من الدولة ورجال المال والاقتصاد، أن يأخذوا بعين الاعتبار أن استمرار التنمية ورفاهية المواطن وأمنه تعتمد على الاستثمار في التقنية.