عشرون عاما على تشكيل لجنة:«استراتيجية تطوير العلوم والتقانة في الوطن العربي»

TT

في عام 1982 شكلت المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم «ألكسو» لجنة وضع «استراتيجية تطوير العلوم والتقانة في الوطن العربي». ضمت اللجنة التي تكونت من 12 عضواً مجموعة من أبرز الخبراء ومسؤولي مؤسسات وإدارات العلوم والتكنولوجيا في الدول العربية. اتخذت اللجنة من دمشق مقراً لأمانتها العامة، وفي عام 1988 قدمت تقريرها الى المؤتمر العام لمنظمة ألكسو. وصدر تقرير اللجنة في عام 1989 عن دار نشر مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت بعنوان «استراتيجية تطوير العلوم والتقانة في الوطن العربي: التقرير العام والاستراتيجيات الفرعية».

< الفرص الكبيرة < ركز التقرير الاستراتيجي على الاستفادة من تعدد الأقطاب العلمية والتكنولوجية للدول والشركات الأجنبية وتباين مصالحها من أجل الحصول على تكنولوجيات متقدمة تساهم في بناء المستقبل العربي العلمي ـ التكنولوجي وتدعم الأمن القومي وجهود التنمية العربية الشاملة. ودعا التقرير الى «بناء القدرات القطرية والإقليمية والقومية لرصد ودراسة البنية العلمية والتقانية العالمية، وتتبع تطورها، ورصد حركات القوى المتفاعلة فيها، وكشف الفرص للاستفادة من التناقضات أو الظروف غير المستقرة في ميادين التقانات الجديدة، وتنظيم الأساليب العملية للحصول على التقانات الحيوية للمستقبل العربي الأمني والاقتصادي والاجتماعي».

ودعا المخططون الاستراتيجيون العرب الى الأخذ بسياسة «الاختراق» واعتبروها «الشكل الأمثل من أشكال العمل الاستراتيجي للتغلب على العوائق القائمة في البيئة الدولية أمام حيازة الأقطار العربية مقدرة علمية وتكنولوجية في مجالات ذات أهمية خاصة»، ونبهوا الى أن أسلوب «الاختراق» يعتمد على «اكتشاف السبل والأدوات التي تمكن من تجاوز هذه العقبات، بما فيها التوصل الى تحالف وتعاون مع جهات قادرة على تقديم المعونة في الاختراق. ويمكن الاستفادة في ذلك طبقاً لرأي واضعي التقرير من الحلقات الضعيفة في السلسلة التكنولوجية العالمية، مثل الشركات الصغيرة التي تستحوذ على الأسس العلمية والتكنولوجية المتقدمة، لكنها تفتقر الى أسباب التمويل وتحتاج الى الأسواق».

وركز التقرير الاستراتيجي على تطبيقات العلوم في الأقطار العربية، مؤكداً أن التكنولوجيا ليست بضاعة جاهزة معروضة للشراء، بل تستدعي حيازتها الدراسة والممارسة والعمل. وأشار الى فرص كبيرة بهذا الصدد تقدمها الخدمات الاستشارية للشركات والمكاتب الأجنبية في الأقطار العربية الكبرى، التي بلغت في بعض الأعوام أكثر من 30 مليار دولار فالمنطقة العربية تمثل أهم سوق أجنبية للمكاتب الاستشارية في الولايات المتحدة، حيث تحتل 35 في المائة من صادرات الخدمات الاستشارية الأميركية في مجال الإنشاءات واعمال الهندسة المدنية. وتمتص المنطقة العربية نحو ثلث الصادرات اليابانية من هذه الخدمات أيضاً.

وتوقع التقرير الاستراتيجي أن يبلغ مجموع عدد الطلاب في الوطن العربي في المراحل الدراسية المختلفة 67 مليوناً في عام 2000، منهم أربعة ملايين في المرحلة الجامعية. وقدّر أن يحتل لبنان المرتبة الأولى في عدد طلاب التعليم العالي، وأن تبلغ نسبتهم 5150 لكل 100 ألف من السكان، تتبعه سورية وتبلغ النسبة 2880 ثم البحرين 2780 والسعودية 2622 وليبيا 2620 ومصر 2475 واليمن الديمقراطي 2455 والعراق 2420 والأردن 2290 والكويت 1700 والإمارات العربية المتحدة 1520 واليمن الشمالي 1185 والمغرب 1120 والجزائر .1060 وأشار التقرير الى النمو الكبير الحاصل في عدد المؤسسات العلمية في الأقطار العربية آنذاك، وبلغ في نهاية عام 1985 أكثر من 81 جامعة و144 مركزاً للبحوث والتطوير و77 دائرة بحثية و65 مركزاً للبحوث في الجامعات. وتوقع التقرير استمرار نمو عدد المؤسسات العلمية والتجمعات المهنية الثقافية في الوطن العربي وتزايد الخبرة والمشورة الهندسية والتكنولوجية وتعمق رقعة الاختصاصات التي تعالجها وانغماسها في مشاريع التنمية. لكن هذا النمو الكبير لن يحدث، حسب تصور واضعي التقرير، تغييراً نوعياً في أنماط علاقات البلدان العربية العلمية والتكنولوجية في ما بينها وكذلك مع العالم الخارجي على حد سواء.

< الخلل البنيوي < يعود سبب ذلك الى ما يسميه التقرير «الخلل البنيوي» في منظومة العلوم والتكنولوجيا العربية الذي يتمثل اساساً في عدم تحقق مفهوم المنظومة في الواقع العربي، «فالأنشطة العلمية والثقافية المنتشرة في أرجاء الوطن العربي لا تشكل مجموعة مندمجة الأجزاء تخضع لسياسة عامة موحدة وتقوم بين أطرافها المختلفة علاقات تفاعل متناسقة ومتكاملة». ويكشف تحليل واقع المنظومة في كل قطر عربي على حدة عن منظومات على درجات متعددة من التطور والتكامل، حيث يكاد يقتصر بعضها على المؤسسات التعليمية ولا يتضمن هيئات عاملة في البحث والتطوير، ويصعب بذلك إضفاء صيغة المنظومة على تلك الأنشطة. وتشتمل الأنشطة في بعضها الآخر على مؤسسات تعليمية متطورة نسبياً وهيئات تعمل في البحث والتطوير في بعض المجالات الاقتصادية، إلاّ أن علاقات الترابط والتنسيق بين عناصرها هي من الضعف بحيث تبدو أجزاؤها شبه منفصلة الى درجة تجعل من المنظومة ككل كياناً جنينياً أو بنية غضّة لا تزال في طور النشوء.

وأشار التقرير الى أن تجربة مصر التي أنشأت منذ الخمسينات هيئة عليا لرسم سياسة علمية وتكنولوجية وتملك ما يمكن أن نسميه منظومة مترابطة الأجزاء، لكن ذلك لا يعني بالضرورة ان تلك السياسة كانت تجد دائماً طريقها الى التنفيذ الفعلي التام، أو أنها كانت من الشمول بحيث تضم أجزاء ووظائف المنظومة كلها.

وتبرر الأرقام والمعطيات التي توصل إليها التقرير الموقف الانتقادي لواقع العلوم والتكنولوجيا في العالم العربي. فقد كشفت المعطيات عن ضعف ارتباط هذا الواقع بحاجات المجتمع وأهدافه وقلة تفاعله معها. ووجد واضعو التقرير في تحليل البنية الأفقية لمنظومة العلوم والتكنولوجيا العربية ان نسبة التعليم الفني والمهني الى مجمل التعليم الثانوي بلغت 11.4 في المائة عام 1982 مقابل 14.7 في المائة على المستوى العالمي، فيما بلغ المعدل 21.3 في المائة في الدول المتقدمة.

وكشف تحليل البنية الشاقولية عن انخفاض نسبة التعليم العالي المتوسط الذي بلغ 15 في المائة مقابل 85 في المائة للتعليم العالي. والمستوى المنخفض في نسبة الطلاب المسجلين في الدراسات العليا وبلغت 4.2 في المائة عن مثيلاتها في البلدان المتقدمة التي بلغت 13.1 في المائة وعن المعدل العالمي الذي بلغ 5.8 في المائة. وهناك انخفاض مماثل في نسبة الطلاب المسجلين لتحضير الدكتوراه وبلغت 27.5 في المائة من إجمالي عدد طلاب الدراسات العليا، مقارنة بنسبة الطلاب المسجلين في الماجستير أو الدبلومات الأخرى التي بلغت 72.5 في المائة. وأشاد التقرير بالنجاح المتحقق في الوقت ذاته في خفض نسبة الأميّة في البلدان العربية عموماً من متوسط بلغ 70.76 في المائة عام 1968 الى 42 في المائة عام 1985، لكنه لاحظ أن نسبة الأميّة ما تزال عالية في بلدان مثل اليمن الشمالي حيث كانت نسبة الأميّة آنذاك 58 في المائة، وفي الجزائر 50 في المائة، والسعودية 47 في المائة، وتونس 40 في المائة، بينما أفلح في خفض نسبة الأميّة كل من الأردن الى 21 في المائة والإمارات العربية الى 22 في المائة.

وبالنسبة للبحث العلمي والباحثين أبدى التقرير تشاؤماً في حال استمرار التوجهات على ما هي عليه. فنسبة الباحثين في الوطن العربي الى مجموع السكان أقل كثيراً من المستوى المتعارف عليه دولياً وهو 2000 الى مليون. وتوقع التقرير أن تراوح النسبة ما بين 250 و450 باحثاً مقابل كل مليون نسمة في الوطن العربي في عام 2000، بينما تبلغ هذه النسبة ما بين 2200 و2500 لكل مليون نسمة في أوروبا الغربية. وخلص التقرير الاستراتيجي الى استنتاج قاس يقول: «وهكذا تنغلق الحلقة المفرغة على ذاتها، وتجري التفاعلات السلبية بين عناصرها المختلفة: تخلّف المنظومة الاقتصادية والاجتماعية يقود الى ضعف وعزلة منظومة العلوم والتكنولوجيا، ويؤدي هذا بدوره الى تكريس التبعية للبلدان المتقدمة، الأمر الذي يفضي الى تعميق التخلف وعلى العكس أيضاً».

ودعا التقرير الاستراتيجي الى بناء القدرات القطرية والإقليمية والقومية لرصد ودراسة البنية العلمية والتقانية العالمية، وتتبع تطورها، ورصد حركات القوى المتفاعلة فيها، وكشف الفرص للاستفادة من التناقضات أو الظروف غير المستقرة في ميادين التقانات الجديدة، وتنظيم الأساليب العملية للحصول على التقانات الحيوية للمستقبل العربي الأمني والاقتصادي والاجتماعي.