إطلاق أول قمر صناعي يشرف عليه عالم عربي: قمر «مصطفى شاهين» يقيس مياه الكرة الأرضية

TT

سيفاجأ العالم خلال الأيام القليلة المقبلة بإطلاق أول قمر صناعي أشرف على تصميمه وحدد مهمته عالم عربي. اختار مصطفى شاهين للقمر اسم «أكوا» Aqua ويعني الماء باللغة اللاتينية. ووافقت وكالة الفضاء الأميركية «ناسا» على الاسم الذي يعكس مهمة القمر الأساسية في جمع معلومات شاملة عن دورة المياه في الطبيعة، بما في ذلك المياه المتبخرة من المحيطات وبخار الماء في الجو والغيوم والأمطار والأنهار والثلوج ورطوبة التربة وطبقة الجليد التي تغطي الأرض. يمثل «أكوا» خلاصة المعرفة العلمية والتقنية للعالم اللبناني الأصل الذي شملت ابحاثه خلال 40 سنة من عمله في وكالة الفضاء الأميركية الأرض والكواكب والأجرام البعيدة < قمر الماء < يحمل قمر «أكوا» الجاهز حالياً للانطلاق من قاعدة فايندبرغ في كاليفورنيا أحدث الأدوات العلمية لقياس دورة الحرارة في الأرض والطاقة الإشعاعية والرذاذ والغطاء النباتي لسطح الأرض والأعشاب والطحالب البحرية، إضافة إلى المواد العضوية في المحيطات وهواء الأرض ودرجات حرارة المياه. وسيرسم القمر المزود بستة أجهزة علمية أول خريطة عالمية تحدد التوزيع الأفقي لتراكمات غاز ثاني أوكسيد الكربون في جو الكرة الأرضية، وتجمع المعلومات عن درجات حرارة سطح الأرض والمحيطات وارتفاع الغيوم وكمياتها وأوضاع الأوزون وغازات الدفيئة. وتقيس الأجهزة درجة حرارة الغطاء الجوي إلى ثخانة تبلغ كيلومترا واحدا بدقة تبلغ درجة مئوية واحدة، كما يقيس درجة الرطوبة إلى ثخانة كيلومترين إلى حد 20 في المئة.

وتبلغ كلفة قمر «أكوا» نحو ربع مليار دولار، لكن المعلومات التي سيجمعها والاكتشافات العلمية التي يقوم بها ستوفر للصناعة والزراعة والقطّاعات الاقتصادية الأخرى ما يعادل خمسة مليارات دولار في اليوم الواحد. فالقمر سيقفز بالتوقعات الجوية التي تبلغ حالياً خمسة أيام إلى أسبوع، ويرصد نذر الكوارث الطبيعية قبل وقوعها، ويجيب عن أخطر الأسئلة التي تهدد الحياة على الأرض.

هل تتسارع دورة التبخر والأمطار في الطبيعة، وهل ترتفع درجات الحرارة العالمية، وهل تزداد كميات بخار الماء في الجو، وأين تذهب الكميات الهائلة من غاز ثاني أوكسيد الكربون المنطلقة في الجو عن حرق الوقود والنشاطات الصناعية في العالم.. وأخيراً هل لتغير المناخ العالمي علاقة بكوارث الجفاف وزيادة العواصف والأعاصير؟

الاسم العلمي لقمر «أكوا» هو «مسبار الرصد الجوي ما فوق الحراري». ويبلغ وزنه 6837 رطلاً، وسيقطع 170 ميلاً ليبلغ مداره المقرر حول الكرة الأرضية. ويرافق قمر شاهين قمران آخران يدرسان مناخ الكرة الأرضية. وتمثل الأقمار الثلاثة أكثر الأنظمة العلمية تقدماً التي أطلقت في الفضاء والمعروفة باسم «الرحلة إلى كوكب الأرض». وستتابع الأرصاد الجوية ومراكز البحوث حول العالم تحليل ودراسة النتائج التي يجمعها قمر شاهين، وستكون أشق الأوقات على الجميع هي الأيام والساعات التي تسبق الإطلاق. بسبب ذلك اعتذر مصطفى شاهين عن حضور «ندوة البحث العلمي والتطوير التكنولوجي في العالم العربي»، وذكر في رسالة شخصية إلى المؤسسة العربية للعلوم والتكنولوجيا أنه وفريقه العلمي مشغولون حالياً بالتأكد من سير العمليات الخاصة باستقبال المعلومات التي سيبثها القمر وتحليلها.

ويعكس قمر «أكوا» القدرات الفذة للعالم العربي الذي جمعت نشاطاته بين المسؤوليات العلمية والإدارية، وممارسة البحوث العلمية النظرية والتطبيقية. وطوّر شاهين طرقا حسابية لقياس حرارة وتركيب مناخ كواكب الأرض والزُهرة والمريخ والمشتري، ورأس فترة 5 سنوات اللجنة الدولية الخاصة بدراسة دورة الطاقة والمياه في الكرة الأرضية. وشغل شاهين للفترة 1984- 2001 منصب رئيس العلماء في «مختبر الدفع النفاث Jet Propulsion Labaratory ومختبر «جي ب إل» JPL كما يدعى باختصار وهو أكبر مختبرات وكالة الفضاء الأميركية «ناسا» NASA وأهم مؤسسة فضائية للبحث والتطوير في الولايات المتحدة والعالم. المختبر مسؤول عن جميع المركبات الآلية غير المأهولة التي تطلقها الولايات المتحدة، وفيه تقع غرفة السيطرة الأرضية المشهورة التي غالباً ما يشاهدها جمهور التلفزيون حول العالم عند وقوع أحداث فضائية مهمة.

< البطل المجهول < والدكتور شاهين من أبطال عصر الفضاء المجهولين الذين ساهمت نشاطاتهم العلمية في إعادة كتابة علوم الفلك وتحقيق انقلاب كامل في معرفة الكرة الأرضية والكون. فالمعروف أن عصر الفضاء الأميركي ولد عندما أطلق «مختبر الدفع النفاث JPL في عام 1958 أول قمر صناعي أميركي «إكسبلورر» (المستكشف). والتحق شاهين بالمختبر عام 1960، مباشرة بعد حصوله، وهو في عمر 25 سنة على الدكتوراه في الفيزياء في جامعة بيركلي التي تعتبر من أهم الجامعات الأميركية. وساهم العالم العربي خلال الأربعين سنة الماضية في أروع إنجازات العصر الذهبي للفضاء. قضى شاهين فترة 15 سنة الأولى من عمله في القسم التقني للمختبر، حيث جرى تصميم معظم الرحلات الفضائية الآلية التي لا تحمل بشراً. تضم قائمة المركبات والمسابر الفضائية التي صممت آنذاك أسماء «أسطورية» مثل سلسلة أقمار «رينجر» و«سرفيور» التي استكشفت القمر قبل هبوط الإنسان على سطحه، ومركبات «مارينر» و«فايكنغ» التي أرسلت إلى كواكب الزهرة والمريخ وعطارد. وصُممت ونُفذت في تلك الفترة نفسها خطة الرحلات الفضائية العظمى للمركبتين «فوياجر ـ 1» و«فوياجر ـ 2». استكشفت المركبتان المشتري وزحل وأورانوس ونبتون، وعثرتا على أكثر من 40 قمراً مجهولاً لهذه الكواكب قبل أن تنطلقا في رحلتهما الأبدية خارج المنظومة الشمسية < رئيس العلماء ورأس شاهين للفترة ما بين 1975 و1978 الدائرة الخاصة بدراسة الأحوال الجوية للكواكب. وأسس في عام 1978 «قسم علوم الأرض والفضاء» في «جي بي إل»، وتولى لفترة 8 سنوات رئاسة هذ القسم الذي ضم 200 باحث، ولعب دوراً مهماً في أحداث فضائية كبرى. وخلال 17 عاما تقريباً من تولي شاهين منصب رئيس العلماء تم بناء وإطلاق المسبار الفضائي «ماجلان» الذي قام برحلة خارقة قطع فيها مسافة 1300 مليار كلم ودار حول الشمس حتى بلغ الزهرة. وبعد أن التف حول كوكب الزهرة الفاتن الذي يسطع في سماء الأرض مع الفجر واخترق جوه المغطى بغيوم كثيفة والتقط له أول الصور في تاريخ علم الفلك.

وتم خلال تولي شاهين مسؤولية رئيس العلماء إنجاز بناء المركبة الفريدة «غاليليو» التي استكشفت أكبر كواكب المنظومة الشمسية. أطلقت المركبة عام 1989 في رحلة استغرقت 6 سنوات قامت خلالها بعمليات التفاف خارقة حول الكواكب، مستفيدة من قوة الجذب والدفع، حتى وصلت إلى كوكب المشتري سنة .1996 الصور التي التقطتها مركبة «غاليليو» للمشتري أعادت النظر كلية بهذا الكوكب الذي يبلغ حجمه 40 مرة حجم الأرض، وكان من الممكن أن يكون نجماً بذاته. وواصل شاهين القيادة العلمية في سنوات التسعينات الصعبة التي شهدت تقليص المسؤولين الأميركيين موازنات الفضاء.

وستروي كتب تاريخ علم الفضاء في المستقبل كيف أمكن في سنوات الثمانينات والتسعينات من القرن العشرين تحقيق منجزات فضائية فريدة، كإطلاق المرصد الفضائي «هابل» و«مرصد أشعة غاما»، اللذين جعلا سكان الأرض يسمعون لأول مرة في تاريخهم أصوات كونية قادمة من مليارات المجرات ويرون أحداث نشأة الكون قبل مليارات السنين. وقد يكشف مؤرخو المستقبل كيف بقي اسم مصطفى شاهين في الظل نحو 40 سنة، ولماذا لم يحتل يوماً غلاف مجلات «تايم» و«نيوزويك» و«إيكونوميست» .. والمجلات العربية واسعة الانتشار في القرن العشرين.