موت النقد

فاضل السلطاني

TT

في كتابه الاخير يعلن مارتن آمس الروائي البريطاني، المقيم في الولايات المتحدة، موت النقد في اوروبا واميركا. فعصرنا ليس عصر النظريات النقدية الكبرى وليس هو ايضا عصر النقد التطبيقي. لقد حل محلها «النقد الصحافي» او بكلمة ادق، اللانقد الذي هو مراجعات سريعة وانطباعات عابرة، وفي احسن الاحوال عروض صحافية تخدم القارئ، ولا تخدم النقد. واذا كان هذا حال النقد اوروبيا واميركيا، اذا تبنينا وجهة نظر آمس، وهي وجهة نظر متطرفة بعض الشيء، فماذا يمكن للمرء ان يقول عن حال النقد العربي. في جلسة مع احد النقاد العرب المعروفين لم ننجح في عد اكثر من خمسة نقاد حقيقيين في كل انحاء الوطن العربي الشاسع. وحين نقول نقادا حقيقيين، لا نعني اولئك الذين اشتغلوا على نظرية النقد غافلين عادة النقد، وهي الكتابة الابداعية، وهؤلاء كثر، قد تنطبق تنظيراتهم على اي شيء، وفي اي مكان وزمان. وقد تمد القارئ بالمعرفة الضرورية حول نظرية الادب والمدارس النقدية، لكنها لا تزوده بالمعرفة اللازمة لقراءة قصيدة او قصة او رواية قراءة صحيحة، او تدل على مواطن النجاح او الخلل في هذا العمل او ذاك، وهي اول مبادئ النقد.

والناقد الحقيقي هو، ايضا، ذلك الناقد الذي لا يكل عن البحث عن المادة الابداعية والاحاطة قدر الامكان بما ينشر ليكتشف الجديد الواعد وينبه اليه ويبشر به، ويرفع صوته النقدي ضد الفظاعات التي ترتكب يوميا باسم الادب او النقد، حتى بتنا نفتقد الى مرجعية واضحة نحتكم اليها، ونركن الى رأيها. ومن يشكل هذه المرجعية سوى وجود حركة نقدية سليمة بعيدا عن الاخوانيات والاعتبارات الاجتماعية والاخلاقية وحتى السياسية السائدة الآن مع الاسف؟

مر ذلك الزمن الذي كان فيه المرء يتردد الف مرة قبل ان يفكر في نشر حتى قصيدة او قصة في صحيفة او مجلة، فقد كانت هناك مرجعية ما، وكان في ذهن الكاتب وجود هذا الناقد او ذاك.

وفقدنا «الغربال» النقدي، ليس بسبب ان العملة الرديئة تطرد العملة الجيدة، بل لاننا صامتون ايضا، لاسباب مختلفة.

اننا نفتقد الآن الى نقاد مثل محمود النويهي او محمود مندور اللذين واكبا نشوء الحركة الشعرية الحديثة وقدما مساهمات مهمة في صياغة الاسس الفنية والجمالية لهذه الحركة، وتابعا نتاجات شعرائها واشبعاها نقدا. وعرفنا الشيء الكثير عن هذه الحركة من خلال اعمالهما قبل ان نتعرف على اعمال روادها. وربما ما كنا لنعرف صلاح عبد الصبور بالشكل الذي عرفناه به لولا جهد النويهي النقدي. واكثر من هذا، استطاع هذان الناقدان، مع اخرين بالطبع، ان يولدا حركة نقدية واكبت الحركة الشعرية الجديدة ان لم تكن قد تقدمت عليها.

والآن وبعد مرور حوالي نصف قرن، يبدو ان هناك انقطاعا نقديا كبيرا بالرغم من جهود متناثرة لنقاد يحفرون في ارض بور، وهم كما قلنا لا يتجاوزون اصابع اليد الواحدة.