القراءة غيبوبة لذيذة تسرق الوقت من عمري

TT

الكتاب ليس حقيبة سفر بل هو السفر ذاته. وما بين إيقاعات الكسرة والفتحة تفتق ذهني على القراءة في رحلة مُبكرة حين صحبني صديقي إلى المكتبة المدرسية. إنه عالم غريب يعبق برائحة الطين وعتمة بقايا ذلك النهار الصيفي، ولأن المكتبة ليست في مدرستي: فقد دخلتها وجلاً وقعدت على أقرب كرسي أمام الطاولة الوحيدة التي تراكمت عليها مجموعة من قصص الأطفال القصيرة، فقرأت بالصدفة قصة «الحمل والذئب» فشعرت بقشعريرة افتضت خيالي على بهجة القراءة لأول مرة، ثم تابعت بنهم قراءة «القصر المسحور» و«الثعلب المكار» و«الأنف العجيب» وعددًا آخر من قصص الأطفال المُبسطة. وهنا انتقلت ومن عالم الحكايات التي تُروى قبل النوم إلى فضاءات القراءة الرحبة، بما فيها من صور وحروف ملونة وحكايات عجيبة مُسلية واكتشفت روعة القراءة والكتب المخالفة للمقررات المدرسية، وفي الطفولة أذكر أنني اشتريت مجلة «سمير» كما قرأت فيما بعد بعض الأجزاء المُفرقة من «ألف ليلة وليلة» التي أصدرتها دار المعارف بمصر أوائل الخمسينات، وفي طبعة مصورة على هيئة أجزاء كثيرة مطبوعة على ورق جيد بحروف كبيرة وإخراج أنيق. وقد ولدت قصص ألف ليلة وليلة في نفسي إحساسًا اختلط فيه الواقع بالخيال في تجليات أسطورية تشبه الحلم المستكين في اللاشعور.

وبعد المرحلة الابتدائية اهتديت إلى مكتبة عنيزة العامة وكانت حافلة بآلاف المجلدات والكتب المنوعة لكل المراحل العمرية، حيث يتم تزويدها بالشراء والاهداءات من الكتب التي ترد من البلاد العربية، وكان المسؤول عنها رجلاً دمث الأخلاق وعطوفًا يقدم الشاهي للقراء، وهو الذي شجعني على القراءة والاستعارة، فقرأت «العبرات» و«النظرات» للمنفلوطي، وبعض القصص القصيرة المُترجمة، وبدأت أقرأ الصحف المحلية التي كانت ترد المكتبة كل أسبوع حول منتصف الستينات الميلادية. وللمكتبة العامة الفضل الكبير في ترسيخ حب القراءة لدي، كنت أجد كل ما احتاجه من الكتب والروايات ودواوين الشعر وبعض المجلات العربية.

ثم بدأت الدراسة في المعهد العلمي بعنيزة، فوجدت مكتبة غنية نسبيًا لاسيما من الكتب التُراثية والدينية المُجلدة التي كانت بعيدة المنال عني ذهنيًا في كبر حجمها وفي موقعها من الرفوف العالية. وفي الرفوف الدنيا تعرفت على الروايات العاطفية، فقرأت رواية «إني راحلة» ليوسف السباعي، فكان لها أثر كبير في عواطفي الجياشة، وأذكر أنني كنت أتناقش مع بعض الزملاء حولها وحولي روايات أخرى مُشابهة. وقد شدني إلى هذه الرواية المفعمة بالحب والحزن طباعتها الزاهية وتغليفها باللون الذهبي والرسومات الملونة المحفورة على الغلاف وفي ثنايا الكتاب. وفي عطلة الصيف استعرت رواية «ذهب مع الريح» وهي رواية أمريكية طويلة لمارغريت ميتشل، وصادفني في الطريق إلى المنزل أحد الجيران ممن أراهم في المكتبة العامة فاستوقفني مرحبًا وقال: ما هذا الكتاب الذي معك فناولته الرواية فنظر إلى عنوانها ثم أعادها بسرعة وكأنه يعرفها، وقال: يا بني أنصحك بقراءة كتب أخرى أكثر جدية: فقد قرأت جميع الروايات التي في المكتبة العامة ولم استفد علمًا أو فكرًا، عليك بقراءة الكتب النافعة، ويبدو أن كلامه الذي لم أدركه تمامًا قد ثبط عزيمتي على استكمال الرواية الضخمة التي كانت فوق قدراتي على الصبر والاستيعاب آنذاك.

وبتأثير من نصائح المعلمين، بدأت بقراءة كتب أحمد أمين، وطه حسين، والرافعي، وكذلك دواوين الشعر وبعض كتب النقد والكتب الإسلامية للعقاد وسيد قطب، وأذكر أنني حصلت على جائزة لقاء مشاركتي في الأنشطة الثقافية، وكانت الجائزة مجموعة كتب فيها كتاب «جاهلية القرن العشرين» لسيد قطب وأحد مؤلفات علي الطنطاوي. وفي مرحلة الشباب والنزوع للاستقلال وجدت في الكتب المُتداولة بين الأصدقاء مجالاً آخر لقراءات مُغايرة في الآداب الحديثة والسياسة إنها فتنة القراءة.

وقد أتاح لي عملي في المكتبات التنوع في القراءات والأخذ من كل فن بطرف، كما قال الجاحظ، وعندما يستدعي الإنسان تاريخ قراءاته المتنوعة يجد أن لكل كتاب بصمة معرفية وربما تاريخًا خاصًا أو طقوسًا معينة تتفاوت قيمتها في الديمومة، فكل قراءة تمحو سابقتها بما يشبه تداخل الألوان والظلال. وتطور الاهتمامات والمذاقات المتغيرة تجعل من العسير تمييز تخوم القراءات المُتراكمة ما عدا القراءة الوظيفية: فالقارئ تتنازعه الميول في متعة القراءة ذاتها ما بين النصوص والخيال: إلى جانب حب المعرفة وكشف الأستار في التاريخ والحياة. فنحن نقرأ لكي ننضج ونتجاوز أعمارنا، أو لكي نعيش حيوات الآخرين من الأموات والأحياء، وأصبحت القراءة إدمانًا أو كما قال توفيق الحكيم «قراءة لمجرد القراءة».

وبمرور الزمن وتقلب الفكر يجد الإنسان نفسه أميل للقراءات الشمولية التي تتصف بتداخل الموضوعات مع نصيب وافر من المعلومات، لا سيما في الكتب التي تجعل القارئ يعيش في سياق العصر الراهن بما يزخر به من أحداث وتوجهات مُؤثرة في نواحي الحياة كافة مع مُحاولة استشراف المستقبل: هذا إلى جانب الكتب التي تغير الحالة المعرفية المختزنة أو الساكنة لدى القارئ من كتب السير الذاتية وكتب التاريخ المحلي والإسلامي والآثار والتراث واللغات وما يطرأ من جديد في الفكر والاجتماع والثقافة بما يوافق الرغبة الدفينة في حب القراءة ذاتها.

يقول وليم شكسبير «يا إلهي ماذا نقرأ.. إنها مُجرد كلمات كلمات كلمات»..

ومع أنني قد لا أستطيع تفسير كنه القراءة ودوافعها: إلا أن هواية القراءة التي تُلازمني مُنذ الصغر أصبحت عادة مُستحكمة تصل حد الشغف الذي ينتابني أحيانًا فأغرق في غيبوبة لذيذة تسرق الوقت من عمري وتقصيني عن كثير من الالتزامات والمسرات.

* أمين عام مكتبة الملك فهد الوطنية