العالم الغربي أصبح مركز ا للأدب الإسلامي

عرب وإيرانيون وأفغان يكتبون عن تراجيديا الأوطان ويبحثون عن سر العذاب الإنساني في المنفى

TT

هل يقتل المنفى الادباء ؟ لعل هذا التساؤل هو أهم ما يشغل بال الكتاب الذين يضطرون لترك أوطانهم لسبب ما أو لآخر، فالشاعر الايراني الشهير سعدي الشيرازي قضى سنوات عديدة منفيا عن بلدته المحبوبة شيراز فارا من الطغيان والاحكام المستبدة وكتب يوما: حب الوطن أمر نبيل ولكن المرء لا يمكنه الموت ببساطة لمجرد انه ولد في ذلك المكان. والكاتب الروسي الكسندر سلوزفيتش كان مرعوبا من ان يموت أدبه في المنفى الذي سجن نفسه فيه مع أسرته في منزل متنقل بقرية صغيرة في «فرمونت» ولم يكن يسمح بدخول أجهزة الراديو أو التلفزيون أو حتى الهاتف ولم يكن يسمح لأحد داخل المنزل بان يتحدث بلغة غير الروسية ولم يكن يجري أي حوارات صحافية مع من لا يتحدثون الروسية.

* بعض الأدباء حولوا فكرة الوطن الى بيوتهم، فذات مرة سئل الشاعر المعاصر الكبير «مانوتشير ياختي» عما اذا كان سيعود للعيش في ايران بعد الديمقراطية فأجابني: «لا لن أفعل فوطني هو قصائدي»، ولكن البعض ما زال يحاول ان يصبح جزءا من المنفى الذي يعيش فيه يتعلم لغة جديدة بالشاعر الروسي المعاصر جوزيف بودسكي اتساقا مع فكرة ان العالم تحول الى قرية صغيرة عالمية حتى اصبحنا نعيش بالمقولة السافرة الشهيرة: ان وطن الانسان هو المكان الذي يبيت فيه ليلته.

على الكتاب المنفيين التكيف مع أوطانهم الجديدة ومع عاداتها الجديدة حتى ولو كانت اعدادهم كبيرة في مكان ما ولنأخذ مثلا حالة الكتاب الايرانيين والعرب والافغان الذين أجبروا أو اختاروا العيش في المنفى.

* المدينة الواقعية

* ومن أعمال هؤلاء رواية الكاتبة الايرانية سرور قاسمي «المقبرة الزجاجية»، وهي رواية مركبة نشرت في باريس وقامت الكاتبة نفسها بنقل النص الاصلي الى الفرنسية. والرواية تدور احداثها في طهران أيام حكم الملالي وتتناول الاساطير الفارسية القديمة. واتخذت الكاتبة من رواية ميخائيل بولغاكوف «السيدة مارغريت» نموذجا لها وكذلك كتابات جورج لويس بورجس ولكنها بنت روايتها على شخصية البطلة التي تجري تحقيقا أو بحثا عن إلهة فارسية قديمة سميت باسمها وهي «ميرزا» والتي دفنت في مدينة ذات جو اسطوري أو قد تكون كذلك فعلا قريبة من طهران. وميرزا تستحوذ عليها تماما المدينة المدفونة والمبنية على فكرة اسطورية ايضا لحماية الجنس البشري عند وقوع اللحظة الحاسمة.

والرواية تسير في خطوط دائرية تصاعدية وتنازلية فهي أحيانا تصل الى قمة الجمال والحقيقة الشعرية، واحيانا أخرى تبدو ملهاة تهجو فيها الكاتبة كل انسان وكل شيء تحت الشمس وبها اجزاء متشائمة قاتمة تلمح لبهيمية الانسان.

وعندما تقرأ رواية قاسمي تشعر انك كنت مدعوا الى وليمة عامرة ولكنك تكتشف في النهاية ان جميع ما تناولته من طعام كان مسموما، وانا مثلا قرأت عشرات الكتب عن الثورة الايرانية، لكن لم يصبن شيء بالكآبة قدر ما فعلت هذه الرواية التي تتخذ مؤلفتها من البساطة ستارا للوحشية التي تضمنتها روايتها لتقول في النهاية ان المأساة التي عانت منها ايران ليس سببها الاسلام أو الثورة او الايرانيين الحقيقيين، فالمأساة هي عنصر عادي في البشرية وكل الدول إن عاجلا او آجلا ستعاني مما عانت منه ايران لان الانسان احمق ولهذا فعليك ان تتوقع منه أي شيء.

* لماذا لا يوجد مخبرون عرب؟

* نفس التشاؤمية وإن كانت بدرجة مخففة ظهرت في رواية الكاتبة اللبنانية هاديا سعيد «البستان الأحمر» وهي كاتبة عاشت ثلاثة عقود كاملة في المنفى بلندن واختارت ايضا التحقيق أو البحث كخط اساسي للرواية ولكن البحث في روايتها هو عن الظروف الحقيقية للجريمة التي لا تظهر أبدا أي تفاصيل عنها وتبدو دائما سرا عميقا وانت تستطيع قراءة هذه الرواية بطريقتين: أولا على انها رواية بوليسية عادية أو انها تأملات للبراءة المفقودة، وربما لان الروايات البوليسية هي دائما دليل على مدى عصرية الادب، فلا توجد ثقافة حديثة بدون ان يكون لها أحد المخبرين الروائيين، فالبريطانيون مثلا لديهم شخصية شرلوك هولمز، والفرنسيون لديهم «مايجرت» والبلجيكيون لديهم «هيركل بيروت» لاغاثا كريستي، والاميركيون لديهم العديد من الشخصيات مثل نات بانكرتون وسام سبايد وفيليب مارلوي. وحتى الروس وبعد حقبة المد الشيوعي كان لديهم شخصية المخبر الخاص وكذلك الاتراك فلديهم شخصية جاجوراجي، لكن العرب والفارسيين لم يكن لديهم هذا النوع من الشخصيات ربما لانهم فشلوا في تقديم أدب عصري غير الشعر وربما ايضا لان الجريمة في بلدانهم ترتكب في اماكن تكون عادة خارج نطاق التحقيقات، وللأسف فهاديا سعيد لم تبتكر مخبرا بل كانت هناك شخصية الراوي الذي كانت عينه دائما على التفاصيل فحتى فنجان القهوة ذكرت انه كان عليه صورة لقلب احمر وكانت دقيقة في ذكر التفاصيل في الشوارع واسماء المحطات تحت الارض وعلب التبغ. والراوي كان حريصا على التقاط كافة الحقائق بحثا عن هدفه ورغم اننا نظل خلال الاحداث واثقين بالراوي طول 35 صفحة كاملة إلا اننا نصاب بصدمة في نهاية الاحداث عندما يقول لنا «انا لا اعرف»، مما يعطينا الاحساس بعدم الثقة بان التراجيدية الانسانية ممكن شرحها وتفسيرها.

وفي هذه النقطة تشترك وتتشابه رواية هاديا سعيد مع سرور قاسمي، فالكوميديا عند الطرفين سوداء، و«البستان الاحمر» اتخذت ثلاثة خطوط: الاول يعتمد على الافكار الداخلية للبطل الرئيسي أو الراوي والثاني يتجسد في صيغة استفهامية كما في حالة التقرير عن ريم العنتر اللاجئة اللبنانية، والخط الثالث يتجسد في المشاهد الانطباعية التي تحجب أكثر ما تكشف، والرواية لافتة لانها تقف بين الطرفين: الحافز التجاري والتطبيق الادبي، فقد كان واضحا ان خيط مقتل «سعيد» استخدم كرابط لقدر ومصير أمل كيخياني وريم العنتر وهما البطلتان الرئيسيتان على مدى زمن الرواية لمكانتهما في بلدان عديدة وثلاث قارات انتقلت فيها الاحداث.

* إحباطات البحث عن صديق

* البحث عن اصل المأساة الانسانية والسرد في المنفى يتحقق ايضا في رواية قدورة جافان «قادم من مكان آخر» والتي كتبت بالفرنسية، وهي عبارة عن قصص قصيرة مجمعة أو بالادق حكايات وضعت جنبا الى جنب بحيث تبدو على هيئة رواية، والراوي مرة ثانية هو امرأة شابة غادرت ايران اثناء قبضة الثورة الايرانية لتكمل دراستها في باريس ولكن تستغرقها ذكريات الطفولة والشباب التي اضاعتها قبضة «الملالي»، وهي بالتحديد تريد ان تعرف ماذا جرى لاحدى زميلاتها في المدرسة والتي كانت الاجمل والاذكى من بينهن لكنها اعتنقت الشيوعية اوائل حكم الخميني، والرواية تعود الى ايران لانجاز فيلم وثائقي للتلفزيون الفرنسي وتحاول البحث عن صديقتها في نفس الوقت وكحال البطلة عن سعيد وقاسمي فهي تكتشف انه لا وجود لما تبحث عنه وتدرك انه عندما تقع مأساة انسانية فلا بد من البحث عن شخص لتوجيه اللوم له أو خلق الظروف القهرية.

وتشاؤمية دجفاني عندما تقارن بتشاؤمية سعيد وقاسمي تبدو في لون الكوكاكولا الخفيفة ربما لانها اصغر سنا أو لانها نجحت في تقديم نفسها كاتبة فرنسية وليست كاتبة في منفى تحاول الربط بين عالمين مختلفين وثقافتين مختلفتين، فقد قدمت مساحة ضوء بحجم ثقب الباب في قلب البشرية المعذورة، وهي ايضا دخلت وتعمقت لقلب جيلها الذي كان مراهقا في زمن الخميني وهو ما كان جديدا ومدهشا.

أما رواية عتيق رحماني «الارض والرماد» فقد كان الرعب من أنواع مختلفة وهو الفكرة الرئيسية. ورحماني روائي افغاني يكتب بالفارسية وهو منفي ايضا ويستخدم اسلوبا معتدلا لدفع الأزمنة والأماكن مما يجعل روايته تبدو كتقرير شرطة وهو الجانب الاكثر وضوحا فيها وخطه الاساسي هو التحقيق والبحث ايضا ولكن هذه المرة هو أب يبحث عن ابنه ليحكي له عن مأساة مرعبة حدثت له وهو يريد ان يشارك الابن في ذلك حتى لو احترق بنفس النار، وهي تبدو كمن يريد القول ان الجيل الاكبر يحاول ان يجعل الاجيال الاصغر تنكوي بنفس النار التي انكوى بها.

وفي النهاية يعثر الأب على منجم الفحم الذي يعمل به ابنه لكنه يكتشف ان الولد يعرف تفاصيل الكارثة ولا يريد ان يزعجه أحد بها والرسالة هنا واضحة وهي ان المأساة الانسانية تحدث حتما وليست هناك حاجة للبحث عن اجزائها أو عمن يشاركنا فيها فلا بد ان نمر بها بمفردنا وكل بطريقته، ورواية رحماني القصيرة ـ 92 صفحة فقط ـ تعد قطعة اصلية وشهادة تكشف عن مدى قدرة الافغان على التحمل وهي واحدة من أولى الروايات الافغانية التي بالرغم من انها مكتوبة بالفارسية ـ اللغة الرسمية لافغانستان ـ لكنها لم تحاول تقليد أو محاكاة الكتاب الايرانيين.

والنظرة الشاملة الى مؤلفات الادباء الاربعة تكشف حقيقة محزنة: وهي انه في كثير من الحالات يضطر الكاتب المسلم ان يترك وطنه حتى يتمكن من الكتابة أو حتى التفكير، وهي حالة لافتة للنظر ولم تحدث من قبل في التاريخ، وهي ان الغرب أصبح مركز الأدب الاسلامي.

* موسوعة المنفى

* في احدى القوائم التي اعدها طالب بجامعة براون بالولايات المتحدة، اتضح ان عدد الكتاب الايرانيين المنفيين بلغ 1385 كاتبا وهي قائمة تشبه موسوعة «who is who» الشهيرة لكن عن الادباء الايرانيين. واكدت انه ما زال الكتاب والشعراء الايرانيون الذين عادوا الى ايران حريصين على تمضية جزء من العام في اوروبا واميركا، وهناك اعداد متزايدة منهم تحتذي نموذج بودسكي وتكتب اعمالها باللغات الغربية، وهذا العام مثلا ظهرت 40 قصيدة ورواية ايرانية مكتوبة بالانجليزية والفرنسية والالمانية والدنماركية وحتى بالفنلندية واغلب هذه الاعمال ايرانية الموضوع، رغم انها ليست مكتوبة بالفارسية والبعض الاخر بعيد تماما عن ايران وعن الفارسية.