لماذا يصر العرب الأفغان على تجاهل سيرة عزام.. هل يعود السبب إلى أسامة بن لادن؟

TT

يصدر قريبا كتاب «الرايات السوداء» للصحافي المصري عبد الله كمال الذي يروي فيه قصة عبد الله عزام الاب الروحي لاعضاء تنظيم «القاعدة» منذ طفولته في فلسطين، ثم رحيله الى الاردن ومصر واخيرا الى افغانستان واغتياله فيها بشكل غامض. وهنا فقرات وافية من الفصل الاول.

* لا بد أن يتوقف أي باحث في مسيرة «الحركة الأصولية الإسلامية الأممية» أمام مجموعة من الأسماء المؤثرة في تلك المسيرة، لأنها كانت، ولم تزل بمثابة العناصر الملهمة لتلك الحركة ـ بغض النظر عن الموقف الفكري للباحث من أصحاب تلك الأسماء ورؤاها. ومنذ تأسست جماعة الإخوان المسلمين في مصر عام 1928، وحتى نشوء تنظيم «القاعدة» في السنوات الأخيرة، فإن «الأصولية الإسلامية الأممية» كانت دوماً تنال في كل مرحلة من تاريخها دفعة إلهامية أو فكرية أو تنظيمية من قائمة تلك العناصر المؤثرة.

يتصدر القائمة بالطبع «حسن البنا» مؤسس جماعة الإخوان المسلمين الملقب داخل الجماعة بصفة «الإمام الشهيد»، ومن بعده «أبو الأعلى المودودي» مؤسس جماعة «إي إسلامي» في شبه القارة الهندية، وسيد قطب المفكر الإخواني المصري الراحل صاحب الكتاب الشهير «في ظلال القرآن»، و«عبد الله عزام» العربي الأفغاني الأول، الذي كان له الدور الأكبر والأهم في نشوء ظاهرة «العرب الأفغان» والتي بدورها أنتجت في ما بعد تنظيم «القاعدة» الذي تخوض الولايات المتحدة الحرب ضده الآن، منذ وقوع أحداث الحادي عشر من سبتمبر، والدكتور حسن الترابي مؤسس الجبهة القومية الإسلامية الشعبية، ثم أخيراً «أسامة بن لادن» زعيم تنظيم «القاعدة». لا شك أن هناك قائمة أطول من الأسماء لعبت دوراً ما، كان لها تأثيرها هنا أو هناك، لكن الأسماء المذكورة وحدها كان لها الدور الأهم في تحول «الأصولية الإسلامية» إلى «أممية دولية»، يحدوها أمل تأسيس «الخلافة الإسلامية».. وهو أمل اختلفت وسائل كل جماعة أو تنظيم في السعي إليه.. وتراوحت ما بين «الرومانسية الساذجة» و«البراجماتية العميقة».. وصولا إلى مرحلة «الإرهاب» والعنف واعتماده وسيلة أساسية من أجل تحقيق هذا الأمل الخاص بتلك الجماعات.

الأمر اللافت للنظر في سيرة كل تلك الأسماء «المؤثرة»، أن حياة كل منهم مضت في اتجاه تطور دراماتيكي مثير للانتباه، بل ان كلا منهم عاش معتركات متنوعة ما بين السجن والمطاردات، وحتى الاغتيال.. لا يتسع لها المقام هنا.. والأكثر لفتاً للأنظار، أنه رغم تعرض عشرات من الباحثين لكل تفاصيل حياة ورؤى وأفكار هذه الأسماء المؤثرة، إلا أن هناك حالة استثنائية مهمة لم يقترب منها كثيرون كما فعلوا مع غيرها.. وأعني بها «عبد الله عزام».

واقعياً لا يوجد مبرر واضح لهذا «التجاهل الاستثنائي».. بل ان هذا يكشف عن تناقض رهيب.. فعبد الله عزام قام بمهمة لم يزل يكتنف تفاصيلها وكثيرا من مبرراتها غموض طاغ.. فقد حقق أكبر تسويق إعلامي ديني للقضية الأفغانية في الدول العربية وبين المهاجرين المسلمين في أوروبا والولايات المتحدة.. وجمع أكبر قدر من أموال التبرعات لصالح المقاومة الأفغانية ضد الاحتلال السوفيتي.. واجتذب المئات الأوائل من «العرب الأفغان» الذين أقنعهم بأولوية «الجهاد» في أفغانستان.. وقد كان بمثابة «الأب الروحي» لأسامة بن لادن حتى إن كليهما وصف الآخر بأنه «أمة في رجل»!.

وحين بدأت في إعداد كتابي «الرايات السوداء ـ القصة الموثقة لدولة أسامة بن لادن والعرب الأفغان»، والذي أسعى فيه لتأصيل مسيرة الدولة العالمية التي حاول بن لادن أن يعلنها انطلاقاً من أفغانستان، واجهت مصاعب كبيرة في العثور على مصادر موثقة تكشف خبايا هذا الرجل الملقب بين العرب الأفغان بـ «الشيخ الشهيد».. بل ان كثيرين من منظريهم ومؤلفي أدبيات تنظيم «القاعدة» اكتفوا بذكر عبارات التقدير والعرفان التي تصل أحيانا إلى ما يقرب من «التقديس» للشيخ الراحل.. دون أن يتجاوزوا ذلك.. إلى درجة دفعتني للشك والاسترابة في أن هناك تجاهلا متعمدا بينهم له. ومن المؤكد أن أي مراقب متيقظ لا بد أن يرصد ذلك التناقض بين الاهتمام بتأريخ «العرب الأفغان» لكل صغيرة وكبيرة وشاردة وواردة عن أسامة بن لادن.. بينما لا يحظى الرجل الذي كان مرشداً روحياً له بنفس الدرجة من الاهتمام.

فهل يعود ذلك إلى خلاف كان قد وقع بين بن لادن وعبد الله عزام في غضون عام 1986، بعد أن بدأ بن لادن الاستقلال بنفسه وبتنظيمه عن عبد الله عزام؟.. ربما.

* العربي الأفغاني الأول

* تاريخياً، لم أعثر على مصادر محايدة حول الرجل وفكره، وكل المتوافر عنه هو مجموعة من الكتيبات والمحاضرات المطبوعة والمقالات المنشورة في مجلة كان يصدرها في بيشاور، تطوع بنشرها في ما بعد مركز يحمل اسم عبد الله عزام في بيشاور أيضاً.. وقد اضطرتني حالة التعتيم شبه المتعمدة إلى نسج القصة الكاملة لعبد الله عزام بأسلوب «الموزاييك» الذي يقتفي أثر المعلومات القليلة حوله في كتاب هنا، أو حوار ومقال هناك.

يصف «بوجمعة»، وهو إمام سابق لمسجد في مدينة «بلعباس» الجزائرية، لقاءه الأول مع الشيخ الراحل عبد الله عزام عند بئر زمزم في مكة المكرمة، قائلا: «كان يتضلع من ماء زمزم، كنت قد رأيت صورة له من قبل، فقلت له: هل أنت الشيخ عبد الله عزام.. فرد: نعم».

إن «بوجمعة» الذي أصبح اسمه في ما بعد «عبد الله أنس» وتزوج من ابنة عزام التي تصغره بـ 19 عاما، ليس الوحيد الذي يحرص على أن يؤكد على أن لقاءه الأول مع الشيخ عزام كان قد تم في تلك البقاع المقدسة، فهذه قصة تتكرر كثيراً على ألسنة عشرات من العرب الأفغان.. مثله «أبو حمزة المصري»، وهو مهندس اسكندري قابل عزام بعد «عبد الله أنس» بثلاث سنوات، أي في عام 1987.. إذ يقول: «قابلت الشيخ عزام في موسم الحج، وطلب مني الذهاب إلى أفغانستان لمساعدة الأفغان من الناحية الهندسية ومن الناحية العسكرية إن استطعت».

وفي ما يبدو فإن هناك رغبة لدى هؤلاء في أن يضفوا هالة من القداسة على بدايات رحلتهم إلى أفغانستان، إلا أنه من الناحية الواقعية كان ذلك طبيعياً باعتبار أن تلك الأماكن هي بالفعل التي اعتاد عزام أن يسافر إليها أوقاتاً كثيرة.. دعاية للجهاد الأفغاني، وجمعاً لأموال التبرعات، واستقطاباً للشباب لكي يسافروا إلى أفغانستان، وحرصاً على المساندة الدينية السعودية له بالفتاوى.. ولم تبخل عليه تلك الأراضي بكل ذلك.

لقد ولد «عبد الله عزام» في قرية تابعة لبلدة «جنين» في فلسطين عام 1941، وهنا تنشأ المفارقة التي طاردته طوال السنوات التسع التي خاض فيها المعركة الأفغانية حتى عام 1989، إذ كيف يكون فلسطينيا ويقوم بكل هذا الجهد من أجل أفغانستان، بينما بلده محتل ويخوض معركة قاسية من أجل التحرير.. وتعيش أحلك سنوات الانتفاضة الأولى تحت نير الاحتلال الإسرائيلي في ما قبل انعقاد مؤتمر مدريد للسلام، بينما هو مشغول تماماً بجمع شتات الفرقاء الأفغان؟ لقد كان هذا لغزاً كبيراً سوف نجيب عنه في ما بعد.. لكنه لم يكن اللغز الوحيد.

الشيخ عزام لم تكن لديه ميول دراسية دينية واضحة منذ البداية، فبعد أن تلقى تعليمه الابتدائي والإعدادي في مدارس «طولكرم» حصل على دبلوم زراعي، قبل أن يعمل مدرساً في مدرسة زراعية قروية بالأردن، لكنه بعد ذلك سافر إلى دمشق وحصل على الليسانس من كلية الشريعة في عام 1966، ثم هاجر إلى الأردن في ما بعد هزيمة 1967.. حيث بدأ أولى عمليات الاشتراك في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي لفترة وجيزة.

في غضون ذلك، أصبح عبد الله عزام مدرساً في جامعة الأردن، ثم سافر إلى مصر، حيث نال الماجستير في «الشريعة» من جامعة الأزهر، ثم عاد إلى الأردن، وما لبث أن كوفئ بمنحة دراسية أخرى إلى الأزهر، حيث نال درجة الدكتوراه في «أصول الفقه». وحين رجع إلى الأردن لم يقض وقتاً طويلاً.. وسرعان ما انتقل إلى السعودية، حيث أصبح أستاذاً في جامعة «الملك عبد العزيز» في جدة.

تقول مجلة «نضال الإسلام»، في عدد «يوليو ـ سبتمبر 1996»: «لقد آمن الشيخ عبد الله عزام بأن الذين يناضلون من أجل تحرير فلسطين قد ابتعدوا تماماً عن الإسلام الحقيقي، وأن الطريق العسكري هو الوحيد المتاح لكي تحقق الأمة الإسلامية النصر.. بالجهاد والبندقية وحدهما.. لا مفاوضات، لا مؤتمرات، لا حوارات». هكذا اجتذب الوضع الأفغاني الساخن في أعقاب الغزو السوفيتي عبد الله عزام دون مبرر واضح ومقنع فسافر إلى باكستان، حيث أصبح أستاذاً في جامعة «إسلام اباد».. لكنه سرعان ما ترك وظيفته وقرر أن يبدأ الجهاد من أجل نصرة الأفغان.. وسافر إلى بيشاور.. حيث وجد في «الجهاد أرضاً لشوقه وحبه الجارف للحرب على طريق اللّه». بهذا كان عبد الله عزام هو «العربي الأفغاني الأول»، الذي ذهب مبكراً جداً إلى هناك، لكنه لم يكن مجرد متطوع رومانسي حالم، أو مؤرخ دارس، وإنما صار همزة الوصل الأولى والأهم بين القضية الأفغانية والعالم العربي.. سواء كان العرب في بلادهم أو في بلاد المهجر في أوروبا والولايات المتحدة، وبدا وكأنه ينفذ مهمة محددة.

* أوصاف أسطورية

* من المؤكد أن الشيخ الدكتور عبد الله عزام كان يملك مقومات خاصة تؤهله لهذه المهمة، فكل الذين التقوه كانوا يعبرون عن إعجابهم به ـ وعلى الأقل أغلبهم ـ ويقول عبد الله أنس: «كان له ـ رحمه الله ـ طلعة يوسفية.. وعزم عمري.. وحسام خالدي.. كما قال عنه أحد الشعراء في الخليج، فقد كان له بالفعل جمال وجه رزقه الله إياه وعزيمة لا تلين، كما أنه كان حاسماً بتبنيه الجهاد وتحريكه الأمة في سبيل ذلك».. وبغض النظر عن هذا الوصف الأسطوري الذي جاء على لسان صهره، وهو وصف مجامل جعل له مواصفات نادرة، فإن هذا بشكل أو آخر يعطينا فكرة عن صفات «الكاريزما» التي تمتع بها عبد الله عزام.. كما بدا لأتباعه ومعجبيه.

على أن عزام كان كذلك خطيباً مفوهاً، من النوع الجذاب الآسر لسامعيه، يمزج كلماته بآيات القرآن وأحاديث الرسول، ولا يتخلى دائما عن الشعر الحماسي ويرصع خطبه بالقصص التاريخية، ويتعمد تكرار الحديث عن كرامات أسطورية، ويبسط المفاهيم، ويتطوع بالشرح الجغرافي والتاريخي لواقع الجهاد في أفغانستان، في أسلوب قصصي وخطابي لم يتكرر لدى كثيرين غيره.. وقد استغل كل هذا في عملية اجتذاب واسعة ومنظمة للمال والرجال من أجل تشجيع المسلمين على الجهاد في أفغانستان، وكأنها قضية الإسلام الوحيدة إن لم تكن الأخيرة. وقبل أن نغوص في تفاصيل هذه «الحملة العزامية»، فإننا نتوقف أمام مذكرة مهمة كتبها الشيخ عزام تلخص إجمالاً المعاني التي كان يرددها في سبيل إقناع من يتوجه إليهم للتبرع أو للجهاد في أفغانستان.. ونعني بذلك مذكرة «الحق بالقافلة»، ويقول في مقدمتها تعريفاً بها: «هذه رسالة صغيرة كتبتها للذين يتحرقون للجهاد ويطمعون في الشهادة في سبيله».

إن الشيخ الراحل كان يرى أن «مصيبة المسلمين الكبرى هي ترك الجهاد، وحب الدنيا وكراهية الموت»، ومن هنا فهو يرى أن ذلك أدى إلى «تسلط الطغاة على رقاب المسلمين في كل ناحية وفوق كل أرض، لأن الكفار لا يهابون إلا القتال»،

* فرض عين

* إن مثل هذه المعاني هي نفسها التي وردت في كتاب محمد عبد السلام فرج «الفريضة الغائبة»، والذي ألفه تأصيلاً لمعنى الجهاد في عقيدة تنظيم الجهاد المصري الذي اغتال في عام 1981 الرئيس السادات، لكن الشيخ عبد الله عزام صاغ رؤيته بأسلوبه الخاص.. في سبيل تحقيق هدفه وهو أن «يلحق من يقرؤه ويسمعه بالقافلة».. ففي الجزء الثاني من رسالته تلك يوجه عبد الله عزام المسلمين إلى المكان الذي يرى أنه الأوجب بأداء فريضة الجهاد.

قال عزام تحت عنوان «وا إسلاماه»: «لا يخفى عليكم التضحيات الباهظة التي فرضت على الشعب الأفغاني المسلم، فهم يتحملون أقصى ما يمكن أن يتحمله بشر لحماية دينهم وأعراضهم وأطفالهم ولم يبق بيت في أفغانستان إلا وتحول إلى مأتم ويُتِّم من فيه». «ولم يبق في القوس منزع، وكادت سهام الكنانة تنفد، والأفغان يأملون من إخوانهم المسلمين أن تفد جموعهم وأن تتحرك اخوة الإسلام في أعماقهم، ولكن لم يلبّ المسلمون نداءهم حتى الآن، وكأن في آذانهم صمتاً دون أنات الثكالى، وصيحات العذارى، وآهات الأيتام، وزفرات الشيوخ».

بل ويضيف مؤكداً على وجوبية الجهاد في أفغانستان: «على قدر اطلاعنا القليل وعلمنا اليسير، نعتقد أن الجهاد وفي مثل هذه الحالة الراهنة في أفغانستان فرض عين بالنفس والمال، كما قرره فقهاء المذاهب الأربعة بلا استثناء ومعهم جمهرة المفسرين والمحدثين الأصوليين».

وعلى قدر تلخيص هذه «المذكرة ـ الرسالة» للأفكار التي روجها الدكتور عبد الله عزام في السنوات التي قام فيها بالدعاية للجهاد في أفغانستان، فإنها لا تنسينا هنا الإشارة إلى أنه بدأ حملته تلك باستصدار فتوى تؤكد أن الجهاد في أفغانستان فرض عين على كل المسلمين..

يقول عبد الله عزام في فتواه هذه تحت عنوان «الدفاع عن أراضي المسلمين أهم فروض الأعيان» راويا قصة تلك الفتوى: «كتبت هذه الفتوى، وكانت أكبر من هذا الحجم، ثم عرضتها على فضيلة شيخنا الكبير سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز، وقرئت عليه واستحسنها، وقال إنها طيبة ووافق عليها، إلا أنه اقترح عليَّ أن اختصرها حتى يكتب لها مقدمة ننشرها بها، ثم اختصرتها، ولكن وقت الشيخ كان مزدحماً وقت الحج ولم يتسع المجال لعرضها عليه مرة أخرى».

وفي موسم الحج عام 1983، وقف عبد الله عزام في «مركز التوعية العامة» بمنى، حيث اجتمع أكثر من مائة عالم من دول إسلامية مختلفة، وقرأ فحوى الفتوى في حضور عبد رب الرسول سياف، أحد أكبر قيادات الجهاد الأفغاني، وقال عزام: «لقد عايشت الجهاد الأفغاني ثلاث سنوات، وأقرر أمام سياف ان الجهاد في أفغانستان يحتاج إلى رجال، فمن كان منكم أيها العلماء عنده اعتراض فليعترض.. ولم يعترض أحد».

والسؤال الذي يطرح نفسه هو: هل كان الجهاد فعلاً في أفغانستان في حاجة إلى رجال؟.. وهو ما يجرنا إلى سؤال آخر.. هو: هل العرب هم الذين حققوا النصر على السوفييت في أفغانستان؟، إن الإجابة هي النفي بالتأكيد، وكما تبين من قبل فإن الشعب الأفغاني كان قد توزع بالفعل على عدد كبير من الفرق والفصائل التي بادرت بالفعل للدفاع عن أرضها.