محمود المسعدي يطل من شرفة الشيخوخة ومعه دانية وعمران

TT

عندما تسرب إلى الساحة الثقافية التونسية، خبر مفاده بأن الكاتب محمود المسعدي يعد لإصدار عمل أدبي جديد، تيقن الجميع تقريبا بأن هذا العمل لن يكون عاديا وذلك لسببين هامين: أولا لأن أديبنا المذكور قد مضى عليه قرابة ربع قرن من الزمن منذ أن اصدر أعماله الأربعة المعروفة وهي «السد» و«حدث أبو هريرة قال» و«مولد النسيان» و«تأصيلا لكيان». وثانيا لأن صاحب هذه الإبداعات قد تجاوز سنه التسعين عاما وبالتالي فان المنتظر من أي عمل يصدره هو أن يكون بمثابة الخلاصة المعبرة عن تجربة طويلة وزاخرة لا بالكتابة فحسب ولكن أيضا بالنشاطات المهنية والسياسية باعتبار تقلد المسعدي لمناصب ومهام كثيرة. وجاء صدور الكتاب المنتظر منذ بضعة أيام عن دار الجنوب للنشر بتونس وهو تحت عنوان: «من أيام عمران وتأملات أخرى»، فأثبت على عكس ما كان شائعا من انقطاع مؤلفه عن الكتابة، بأنه ظل مواظبا عليها باستمرار ولكنه ظل يميز بينها وبين النشر والانتشار، باعتبار أنه لا يكتب ليعيش ولينتشر ويذيع صيته كما هو شأن اغلب الكتاب، ولكن يبدو وكأنه يعيش ليكتب أي بالمعنى الذي يجعل الكتابة تكتسب لديه أهمية الهواء الذي يستنشقه والنور الذي يستضيء به من ظلمة الوجود ومن عتمة السؤال، وهذا ما نستشفه من قوله في باب التأملات الذي جاء في خاتمة الكتاب: «ليس من الأدب على أي وجه أن تقول لتقول وإن أبدعت حرفا ولحنا. وإنما هو أن تكون لتقول وأن تقول لتكون نحتا وتمحيصا» ثم قوله كذلك وكأنه يجيب عن سبب انقطاعه عن النشر طوال تلك السنوات: «يسألونني: هل كتبت من جديد؟ رواية كالسد؟ حديثا كأبي هريرة؟ أو غير ذلك؟ من غير أن يدركوا أن الإنسان سؤال لا يتكرر ولا يتغير، لا يتكرر لفظا دون إفلاس وإملاق ولا يتغير معنى دون زور ودلس».

فضلا عن ذلك فان «من أيام عمران»، وكما سنفهم بعد حين، هي قصة أو رواية تتكشف عن قصة أو رواية أخري، ونعني هنا قصة العثور عليها وإعادة تحقيقها وتجميعها وهي العملية التي قام بها الباحث الجامعي محمود طرشونة الذي كان على علم، بحكم قربه من الأديب وتردده عليه، بأن هذا الأخير كان قد شرع في كتابة بعض الفصول من قصة لم تكتمل، وأنه كان يخط من حين لآخر بعض الأشياء التي يهملها بعد مدة أو يضعها على جانب. وبعد الاتفاق مع الأديب وأفراد أسرته قرر الباحث الشروع في التنقيب عن تلك المخطوطات. وبالطبع فان عملية مثل هذه لا يمكن إلا أن تكون عسيرة باعتبار أنها تتطلب العودة إلى جل المنازل التي تنقل بينها الأديب طوال حياته، ومن ثمة الغوص في أكداس الوثائق المنسية تحت أكوام الغبار والرطوبة. يقول طرشونة وهو يصف بعض أطوار حفرياته بين هذه الأكداس: «وأخذت الدفاتر تتكشف الواحد بعد الآخر، دفاتر كانت في ما مضى زرقاء أو حمراء او خضراء، فوحد الزمان لونها فصارت لا لون لها. ولما فتحناها وشرعنا في استكشاف مضامينها كاد يصيبنا الإحباط إذ لم يكن فيها غير وثائق شتى: كشوف حسابات بنكية، وظروف رسائل شخصية، ودعوات لحضور اجتماعات أو حضور حفلات الزفاف أو تدشين معارض الرسم، وقطع صحف قديمة وغيرها... ومما لا شك فيه أن تلك الوثائق الإدارية والعائلية كانت في سرها تسخر من سذاجتنا وجهلنا، وربما من عشى بصرنا لأننا اقتصرنا على قراءة المطبوع عليها وفاتنا أنها هي نفسها استعملت مسودات لكتابات خطية. وما تبادر إلى الذهن قط أن تلك الكتابات لم تكن من جنس نصوص الوثائق الرسمية رغم تعايشها معها على نفس الأوراق».

ان ما نستنتجه، اذن، وما نتبينه من الأمثلة التي اوردها طرشونة هو أن المسعدي يكتب، تحت ضغط الإلهام، على ما يقع بين يديه من ورق، سواء كان ذلك كشفا لحساب بنكي أو بطاقة دعوة لحفل زفاف أو صفحة لجريدة كان بصدد مطالعتها فعدل عن ذلك وحول طرتها وحواشيها إلى خشبة تتبارز عليها شخصياته وتتلألأ عليها أفكاره. وبعد التحقيق والتجميع بالتشاور مع الأديب الذي يقول عنه الباحث بأنه «لا يزال يحتفظ بوعي كامل وقدرة على التذكر عجيبة»، تبلور قوام القصة أو الرواية فتوزعت الى خمسة أقسام أو كما يسمى هنا مراحل، وسمت المرحلة الأولى بالفقدان والثانية بالوحدة و الثالثة بمولد الكبرياء والرابعة بالحاجة الى الحب والخامسة بالموت. كما توزعت كل واحدة من هذه المراحل الى مجموعة من الايام مثل يوم النزول من الجبال ويوم التيه ويوم التجاوز الاقصى ويوم الصمت والغصة وغيرها. وقد تمحورت هذه الايام بدورها حول شخصيتين هما عمران ودانية اللذين يقول عنهما المسعدي بأنهما «شخصان في المخاض لست ادري أسيكون منهما قصة او رواية أو لا يكون». غير أن الثابت حول هذين الشخصين هو أنهما ينتميان الى نفس العائلة التي تضم شخوصا اخرى سكنت الى اعمال المسعدي مثل غيلان وميمونة وابي هريرة وريحانة، بل لعل عمران ودانية في هذه الايام هما الامتداد الذي لا ينتهي لتلك الشخوص وهما خيوط وخطوط لمتاهة الوجود التي جعلت أيام المسعدي تتشابك وتتداخل بين أعمال ظلت بارزة وشامخة كالأهرامات وأخرى تطلبت ولعلها ما زالت تتطلب البحث والتنقيب ونفض الغبار. يقول الناقد توفيق بكار في قراءته لهذا العمل: «هذا عمران يعود الينا تائها بين شتات الرقاع في أقاصي النسيان، لينضم الى وُلد (أولاد) كاتبنا، أبطاله الأربعة الاعلام: أبي هريرة وغيلان ومدين والسندباد، خامسا لهم، في التعداد ولا بالميلاد، بل لعله أولهم في المخاض. به يتم جمعهم. وهو بلا ريب أخوهم، على وجهه ما على وجوههم من سيماء النسب، وفيه ما فيهم من ارث الروح والفكر: العشق والقلق وتيه التسآل عن يقين الكون ومعنى الانسان.

* من ايام عمران وتأملات اخرى

* الكاتب محمود المسعدي

* الناشر: دار الجنوب/تونس