شهادة سودانية من داخل حكومة نميري

وزير الثقافة والإعلام السابق يتحدث عن دهاليز السلطة السودانية حتى بداية الثمانينات

TT

في دهاليز السلطة، مذكرات لم تكتمل، للدكتور اسماعيل حاج موسى، الذي شغل منصباً وزارياً من 1976 إلى 1982، كوزير للثقافة والإعلام مثل شقيقه الأكبر عمر حاج موسى (1970 ـ 1975)، لكنه كان الأصغر سنا، حيث حمل الحقيبة الوزارية وعمره 29 سنة.

اسماعيل يقول في تقديم هذه المذكرات: انه يقدم شهادة ولا يكتب تاريخاً عن فترة عاصرها وشارك فيها (منتصف السبعينات حتى مستهل الثمانينات) وأعتبرها من أخصب فترة تاريخ السودان المعاصر، فقد اتخذت فيها قرارات كثيرة ونفذت مشاريع، وصاحبها جهد كبير، وجدل مثير ولغط كثير، ومشاكل هنا وهنالك، وصاحبت كل ذلك حركة واسعة ومتصلة بين أروقة «السلطة» ونشاط كبير ولاهث داخل «دهاليزها».

ويعترف موسى بأنه عاش في هذه الأروقة، ووجد أن الوضوح والصراحة يمثلان موقع الصدارة في قائمة الممنوعات في العمل والتعامل داخل هذه الدهاليز «فعندما تكون واضحاً وصريحاً تصطدم بالكثيرين وتتعرض للكثيرين وتصبح هدفاً للمؤامرات والدسائس، وهذه للأسف معالم أساسية في هذه الغابة التي يسمونها «السياسة» وسمات مهمة في الدوامة التي يسمونها «السلطة»، وان السلطة حسب وصفه عالم من نار ونور، ودنيا من جحيم ونعيم، وبينما البعض من الداخل لا يراها إلا ناراً وجحيماً فإن البعض الآخر لا يراها إلا نوراً ونعيماً، وذلك يعتمد بالطبع على قيم وطبيعة الشخص الذي يتحرك في أروقة السلطة».

«وإن كانت السلطة شقاء وعناء ونكداً، وانت في دهاليزها وأروقتها، فهي جحود وتجن وتجريح وأنت على أسوارها وأرصفتها، فكثير ممن كانوا يلهثون وراءك ويتدافعون نحوك ويتهاتفون عليك وأنت في السلطة، يتبرأون منك ويتنكرون لك، وينقلبون عندما تخرج من السلطة»، «ولكن بالطبع، يوجد أولئك الذين يظلون في ساعات الأمن والصروف على كثير من الوفاء والإخاء والسخاء».

ويتناول المؤلف جانبا من مواجهاته في السلطة كموقفه من اتفاق كامب ديفيد، ومعارضته له مع أن الرئيس السابق جعفر نميري أيد الرئيس أنور السادات وسانده، وتحدث ايضا عن تجربته في المكتب السياسي للاتحاد الاشتراكي السوداني (التنظيم الحاكم)، حيث قلة قليلة تتحدث في الاجتماعات بينما يلتزم الآخرون الصمت».

اما عن اجتماعات مجلس الوزراء، فنقول: إنه رغم ما كان يبذله الرئيس نميري احيانا لتنشيطها، فقد كانت روتينية، وكان يوم الأحد، يوم اجتماع مجلس الوزراء يعد بالمقاييس الموضوعية يوما ضائعا بالنسبة لكثير من الوزراء، وكانت كل أهميته قد تختصر في أنه يمكن الوزراء من اللقاء مع بعضهم بعضا في صالون الانتظار قبل موعد الاجتماع في الساعة العاشرة مما يوفر عليهم بعض الزمن ويهيئ لهم الفرصة للتفاكر حول بعض المسائل المشتركة، كانت معظم بنود الأجندة في معظم الأحيان عبارة عن مذكرات من الخدمة العامة حول قضايا بعيدة عن واقع الناس، أو الاتفاقيات أو القوانين أو التقارير عن رحلات الوزراء «نادراً ما كنا نتعرض لقضايا الناس اليومية، ولذلك فاجتماعات مجلس الوزراء كانت بصفة عامة مملة، وقد ولدت برتابتها هذه هواية غريبة، هي هواية تمرير المذكرات المقتضبة من تحت المنضدة طيلة الجلسة، وهي في معظمها تحتوي على تعليقات وتشنيعات حول الأحاديث والناس، «ولا أزال احتفظ ببعض هذه المذكرات الصغيرة التي تشهد على روتينية هذه الاجتماعات، والملل الذي يشعر به الوزراء الذين تعودوا على المساهمة الجادة والمنظمة في التعايش».

وتناول موسى أيضا احداث يوليو (تموز) 1976 في السودان، والذي اصطلح على تسميتها وقتها بـ «غزو المرتزقة»، حيث اختفى التنفيذيون (الوزراء) وبقوا في منازلهم باستثناء النائب الأول اللواء الباقر أحمد ووزيري الإعلام والداخلية.

المذكرات لا تخلو من خيبة الأمل ومرارة المثقف لدى دخوله دهاليز السلطة بمعايير النقاء والعطاء والتجرد، وهي تنتزع الهالة التي تحيط بأهل السلطة خاصة الذين ينظرون إليها من زاوية المكاسب والمزايا وليس المساهمة والعناء والجهد والتضحية.

* الكتاب: في دهاليز السلطة.. مذكرات لم تكتمل

* المؤلف: إسماعيل حاج موسى