أدب السيرة والسيرة الذاتية

فاضل السلطاني

TT

عبرت القاصة العراقية ديزي الامير في الحوار المنشور في «الشرق الاوسط» يوم السبت الماضي عن تخوفها من التحدث عن الامور الشخصية في مذكراتها التي تنجزها الآن، بعكس الرجل الذي يمكن ان يكتب بصراحة لا يحاسبه عليها المجتمع. ومع صواب هذه الملاحظات، نجد ان اشكالية كتابة المذكرات اشكالية تتعلق بطبيعة المجتمع العربي كله، مع بعض الاختلافات النسبية بالطبع بين المرأة والرجل. ان ادب المذكرات ما زال يحبو عندنا ولم يتأسس بعد كنوع فني مستقل بحد ذاته. ولا مجال للمقارنة بيننا وبين الامم الاخرى في هذا السياق، فمنذ ان كتب جان جاك روسو مذكراته في القرن التاسع عشر، التي اثارت ضجة كبرى حينها لصدقها البالغ، احتل هذا الفن الرفيع مكانة الى جانب الانواع الادبية الاخرى. والامر لم يقتصر على كتابة السيرة الذاتية، بل اصبح هناك مختصون في كتابة سير الادباء والسياسيين والفنانين، يكرسون حياتهم لدراستهم وتتبع سيرهم الشخصية والاجتماعية والثقافية والسياسية. بحيث يمكن القول ان لكل شخصية مؤثرة في الفن والادب والسياسة والعلوم والاجتماع كاتب سيرة او اكثر. وهذه السير ليست تسجيلا لوقائع واحداث حياتية، وانما قراءة نقدية ايضا لشخصية وحالة وموقف وعصر.

ولم يعد كتاب السيرة موثقين فقط، وانما كتاب ومبدعون من الدرجة الاولى.فكتابة السيرة، من جانب آخر، محاكمة لماضٍ، سواء اكان شخصيا ام عاما، مستمر في الحاضر بقوة، ومن هنا اهمية كتب السيرة والسيرة الذاتية التي تكتب بهذا المعنى في العالم الذي سبقنا حضاريا. وبالطبع، قراءة مثل هذه تحتاج الى شجاعة كبيرة قد تؤدي الى الهلاك، في مجتمعات مثل مجتمعاتنا مثلما كادت ان تودي بجان جاك روسو ولكن قبل قرنين! ولا يملك المرء سوى ان يشعر بالحسرة حين يختفي عشرات من سياسيينا وكتابنا ومبدعينا دون ان يجرأوا، لهذا السبب او ذاك، على الكتابة عن سيرهم او سير الآخرين بالشكل الذي كتب فيه، مثلا، الشاعر بابلو نيرودا عن نفسه وعصره، او بالشكل الذي كتب فيه بيتر دافسون عن جورج ارويل وعصره، وهي سيرة بلغت اثني عشر جزءا.

ومع ذلك ظهرت عدة كتب سيرة في السنوات الاخيرة مما ينبئ ان شيئا ما يولد، وان كان البعض يحمل تشوهات الولادة. ويمكن الاشارة، بفرح، الى تجربة المغرب في هذا المجال، اذ صدرت في السنوات القليلة الاخيرة عدة سير ذاتية لكتاب وسياسيين مثل عبد الكريم غلاب، ومحمد شكري، ومحمد المرابط، وعبد القادر الشاوي واخيرا عبد الله العروي وخالد السفياني وغيرهم، مما قد يسمح اذا ما ساعدت الظروف المناسبة بتكون فن السيرة والسيرة الذاتية كفن قائم بذاته للمرة الاولى في الادب العربي المعاصر.

وهذا لا ينفي اننا ما زلنا نعتبر كتابة السيرة وكأنها نوع من النميمة او المفخرة بالذات والسعي وراء الشهرة كما اشارت ديزي الامير. ولكن يبقى، مع ذلك، اشخاص قلائل قادرون على تجرع السم مقابل قول الحقيقة، التي تختلف عن سرد الوقائع الشخصية على اهميتها، ومثل هؤلاء الناس نادرون في كل عصر، لكن التاريخ لا يتقدم اذا عدم وجود مثل هؤلاء الاشخاص.