ميرال الطحاوي: كيف تتجاوز الكتب الكبيرة النسيان؟

TT

كان على «الكومود» الى جانب فراش أبي دائما كتاب ما، قبل ان يطفئ الضوء يضع في ثنية الصفحة حيث توقف سجارته، تنتظر الصباح، يشعلها اذا تداخلت النشرات المتتالية من المذيع ويكمل القراءة، حين أعقص ضفيرتي صباحا أمام المرآة التي تواجه فراشي أتأمل دائما الغلاف لماذا ظلت كلمة «الحرافيش» بخطوطها المائلة على خلفية من الوجوه الكثيرة تلازم مخيلتي عن كل الكتب التي تمنيت أن أعرف لماذا ينشغل أبي بها عني. بكثير من العناد أحاول القراءة مرة بعد مرة لهذا النص كيف تخلص النصوص الكبيرة وجودها وتواجه النسيان والتجاوز بكل هذا الحضور. سؤال صرت أواجهه كلما راودتني الكتابة، كيف يصير النص مرآة لروح كاتبه، وكيف يخلق ديمومته في تراث الفناء المحض، عرفت بعد ذلك الكثير من الأوراق والكتب والأغلفة والكتاب، في الثالثة عشرة كانت لي حقيبة ـ لم تكن حقيبتي في الحقيقة ـ كانت تتسع لعدة دواوين وكشكول رُسمت عليه قلوب كثيرة، في الحقيبة كانت أشعار نزار قباني وديوان «لا تكذبي» لكامل الشناوي، قصاصات قديمة نسجت منها أول طموحات الكتابة والمحبة، بعد عدة سنوات كنت غارقة في مجلدات سميكة، أقرفص بخشوع أمام ابن كثير وقصة خلق آدم وموت سليمان وقصص الأنبياء والسيرة النبوية. أدخلتني الى عالم من الروايات، ربما هنا فقط تخلق الراوي الذي يسرد محكياته في مخيلتي بكل جلال الحكي وكل بلاغة الجمل المروية من فلان الى فلان، الولع باللغة، بالحرف، بالمعنى الذي يكشفه المفسر، بالإحالة وتعدد الدلالة، واعجاز اللغة وامكانات البلاغة تشكل وعيي بالكتابة بالمثن والهامشي، بالرمزي والاسطوري.

وعندما بلغت الثالثة والعشرين كانت الكتابة تراودني كحلم، أغزل من نسيج اللغة الذي سقطت في غواية أول مجموعة قصصية كتبتها «ريم البراري المستحيلة». في البداية نفوح بمعنى ان نصير كتابا، وان يصبح لنا نص مطبوع عليه حروف أسمائنا وبعدها بقليل تبدأ الأسئلة عن معنى النجاح ومرادف الشهرة والتحقق، وضرورة الاخلاص للكتابة. في الحجرة التي يتوسطها مكتب كان يجمعنا كعائلة صغيرة، كتاب حالمون وناشر جاء بكل ما جمعه في غربته ليصنع حلمه. قلب صفحات روايتي الأولى عدة مرات، وأعاد قراءتها للمرة العاشرة بصوته الخفيض، وفي كل مرة كان يهز رأسه، ويقول: انه عمل جميل ويحبه، العلاقة بالمطبوعة التي صارت روايتي الأولى (الخباء) كانت أكبر من ناشر ونص، كانت قضية وجود لأرض ترفض البذور الضعيفة، ولحياة ثقافية تحتفل بشلليتها وهي تدعي النزاهة والشرف.

في الكتاب الأول تتحسس الكتابة وتختبر ملكاتك كمبدع، وذائقة القراء تجاهك، في الكتاب الثاني تحاول تأكيد وجودك، وفي الكتاب الثالث تحاور الاحترام وتحاول ان تؤكد مصداقيتك مع المتلقي، الكتابة بعد ذلك هي دوران في فلك اقتناص «نص» تتمنى ان تكتبه، وتاريخ يتذكرك أو يهملك أو يعدلك ظاهرة آنية أو يعيد اكتشافك، تاريخ الكتابة مليء بالمفاجآت وأكثر عدلا وقسوة مع النصوص والكتب.

أكتب وأدفع لأشتري كتابي ثم أهديه لكل من أعرف. كيف يحمل الكاتب في عالمنا الثالث وزر كل الادوار الكتابة والتطور والدور الاعلامي والتوزيع، كيف يصبح بناء ومناولا وصاحب الجدار أيضا كما يقول المثل الشعبي كيف يقوم بكل الادوار ويقاتل ليصبح موجودا على خارطة الكتابة، سؤال يلح عليّ كلما تعاملت مع دور النشر الأجنبية. الكتب التي عرفتها في حياتي كثيرة، كتب بقيت كمصادر أروح وأجيء إليها، كتب التراث، وأشعار العرب، والمرويات والنوادر، ونصوص أدبية بعينها، أسرتني، «مائة عام من العزلة» لماركيز، «المسيح يصلب من جديد» لكازنتزاكي ، «المجوس» للكوني، «البومة العمياء» لصادق هدايت «الجميلات النائمات» لكواباتا «امرأة الرمال» لكوبو آبي، الذاكرة قد تسقط الكثير، لكن الذوق قد تشكل، خلق العالم الخاص، ثراء البشر، بانورامية الفضاء المروي، هكذا كان ذوقي الذي شكلته الحكاية، دور المخيلة في الاسطرة والانتقاء، أعول على القراءة المتواصلة لأخلق ذائقتي الخاصة في التلقي، الكاتب هو بصيرة نفسه، والحياة النقدية حافلة بفسادها وعمائها، أحاول أن أعلم نفسي كيف تجرؤ الأفكار وكيف تتخلق النصوص الكبيرة التي تضيف الى رصيد وعيي بالكتابة، وتخلق الرغبة في التحدي.

في الفترة الأخيرة صرت أنظر للكتابة بوصفها احترافا، حين كنت أكتب روايتي الأخيرة «نقرات الظباء» كانت المراجع التاريخية تنير مسار الحكاية التاريخ الذي أكتبه ليس مكتوبا ولا بعيدا. قرن أو اثنان من الزمن المتداخل، وصف الحياة الاجتماعية كان بحاجة الى كتب الرسالة في تلك الاثناء، للأسف معظمهم أجانب، صار التاريخ الاجتماعي يعني امتلاك جوهر البشر، اسقط على ذلك التاريخ بعض مواجعي وأقول ان الكتابة الروائية تحتاج دائما الى محرض للمخيلة، اختفاء الواقع الحقيقي يخلق ما يشبه محاولة الإمساك به واقتناصه من شوارد المراجع، أعد قائمة بما أريد الاطلاع عليه، أخزن كل التفاصيل في ذاكرتي ثم ألقي بالتاريخ الى التاريخ، يبقى لي كرائحة بشر عبروا على الأرض.