رؤية عربية حول الخيار النووي في الشرق الأوسط

TT

رغم كل الكوارث التي حلت بمنطقة الشرق الأوسط واعتبارها واحدة من أكثر المناطق فقداناً للاستقرار، وبؤرة للحروب والقلاقل، فانها تفادت، لحد الآن، الوقوع في أي مغامرة نووية من أي نوع، وإن كانت قد اقتربت من ذلك كثيراً. وفي القرن العشرين الذي انقضى منذ وقت قريب، لم تكن المدن التي دمرت فيه بواسطة القوة النووية في الشرق الأوسط، بل بعيداً جداً عنه: في اليابان وخلال الحرب العالمية الثانية. على أن المفارقة الكبيرة هنا أن بلدان الشرق الأوسط، وكذا الهند وباكستان، التي كانت أبعد ما تكون عن الخطر النووي خلال الحرب العالمية الثانية، صارت أقربها اليه مع مطلع القرن الحادي والعشرين، فيما ابتعدت الدول التي كانت أقرب البلدان للوقوع في كوارث الحرب النووية، اليابان، أوروبا، الاتحاد السوفياتي السابق والولايات المتحدة، عن ذلك الخطر نتيجة لعقلنة السياسة الدولية التي نظمت العلاقات بين تلك الدول حتى في أوج لحظات الحرب الباردة وسباق التسلح. والسلاح النووي، من ناحية استراتيجية وسياسية وأخلاقية، أثار من الخلافات والجدل حوله ما لم يثره أي سلاح في تاريخ البشرية. فهو يمتاز بفرادة غير مسبوقة لجهة قدرته التدميرية الخارقة، على ما شهد العالم يوم قصفت هيروشيما وناغازاكي في أواخر أربعينات القرن الماضي، بقنابل نووية تبدو بدائية مقارنة مع ما هو متوفر هذه الأيام. وقد تضاعف الخطر النووي مئات المرات بسبب الصواريخ العابرة للقارات والحاملة للرؤوس النووية، بما يعني امكانية اطلاق صاروخ نووي من أي مكان في العالم لضرب أي مكان آخر في العالم من دون الحاجة الى تحريك دبابة واحدة، أو أي جندي. والقدرة التدميرية للسلاح النووي، التي تصل الى امكانية ابادة الملايين من البشر في غضون ساعات قليلة، هي الوجه الأبشع في هذا النوع من القوة والذي يثيره كثير من النقاد وعلماء السياسة والاجتماع وفلاسفة الأخلاق العالمية.

غير أن ذلك الوجه البشع الذي يميز السلاح النووي هو ذاته الذي يبهر كثيرا من المقتنعين بهذا السلاح لأنه يوفر قدرة ردع فائقة جداً لدرجة تشل أي طرف عن استخدامه. وبهذا فان اطروحة المؤيدين للسلاح النووي تقول بأن الإبادة الهائلة التي تنتج عن استخدام هذا السلاح ضد الخصم، وما ينتج عن ذلك بالطبع من رد فعل نووي من قبل ذلك الخصم، يعنيان أن استخدام هذا السلاح عملياً هو أمر غير ممكن إن لم يكن مستحيلا. لكن في نفس الوقت فان الردع الذي يوفره بين الأطراف المتخاصمة هو ردع حميد جداً اذ يجعلها تتردد كثيراً في الذهاب الى الحرب، وعوضاً عنها اللجوء الى الأساليب السلمية لفض النزاعات. في الشرق الأوسط تحديداً، وهو موضوع هذا الكتاب/الندوة، تفاقم الخطر النووي بسبب امتلاك اسرائيل للسلاح النووي والتلويح به ضمناً بهدف ردع العرب وافهامهم أنه ليس بامكانهم تدمير اسرائيل. ومنذ أواخر خمسينات القرن الماضي واسرائيل تتبنى سياسة «الردع بالشك» أو «الغموض الإيجابي» كما يشير أكثر من مساهم في الكتاب، حيث لا هي تعترف ولا تنكر امتلاكها السلاح النووي بهدف اثارة غموض رادع بهذا الشأن. فمن ناحية يضرها الاعتراف بامتلاك السلاح النووي لجهة الإدانة الدولية باعتبارها رسمياً الدولة التي تدخل هذا السلاح الى الشرق الأوسط، كما تدفع الدول العربية الى مجاراتها في امتلاك ذلك السلاح. ومن ناحية ثانية اذا هي أنكرت امتلاك السلاح النووي فانها تصبح مجبرة على فتح مخازنها للجان التفتيش التابعة للوكالة الدولية للطاقة الذرية وسواها من المنظمات الدولية. هذه القضايا وسواها كثير يناقشها هذا الكتاب المهم والموسوعي الذي يقدم رؤية عربية حول موضوع استراتيجي في غاية الخطورة، مع التركيز الشديد على قضية الأمن العربي القومي وعلاقته بامتلاك العرب للقدرة النووية عسكرية كانت أم سلمية. وتتوزع المساهمات العشرون في الكتاب على خمسة أقسام غطت أهم المحاور التي لا بد من التعرض اليها عند مناقشة الموضوع عربياً. وتناولت هذه الأقسام موضوع انشاء منطقة خالية من أسلحة الدمار الشامل في الشرق الأوسط، وعلاقته بالتعنت والرفض الإسرائيلي الحالي للفكرة، كما ناقشت الخيارات الاستراتيجية والعسكرية الأخرى المتاحة للأطراف العربية. فضلاً عن ذلك فان هناك معالجات رصينة لعلاقة الاستخدامات السلمية للطاقة النووية مع التنمية والتطور العلمي المنشود عربياً، اضافة لمساهمات حول أثر امتلاك الهند وباكستان للخيار النووي على الاستقرار الإقليمي في آسيا ومنعكساته على الشرق الأوسط. ومن الواضح جداً أن الهم الأكبر الذي تنطوي عليه معظم المساهمات، ان لم تكن كلها، هو التوفيق بين الخطر الماثل في اختلال التوازن جراء امتلاك اسرائيل للقوة النووية وعدم امتلاك العرب لها، وما ان كانت الاستراتيجية العربية الأصح، هي في بذل الجهد من أجل امتلاك تلك القوة، أم السعي من أجل تنظيف الشرق الأوسط برمته، وفي مقدمته اسرائيل، من هذه القوة المدمرة. وعلينا أن نقول انه رغم وضوح الموقف الرسمي العربي في هذا المجال معبراً عنه بمقررات الجامعة العربية اولاً، ثم بالتوجه المعلن للدول العربية الكبرى مثل مصر وسورية والسعودية، بالدعوة الى إخلاء المنطقة من كل أسحلة الدمار الشامل، فان عدداً من المساهمات والمساهمين يدفعون باتجاه تبني خيار بناء قوة نووية واعتباره استراتيجية حاسمة في القرن الحالي مهما بلغت تكاليفه. لكن يبقى أن التوجه الأكثر حكمة وأقل أكلافاً على المجتمعات العربية هو الموقف الجماعي العربي الذي عبر قرار القمة العربية في يونيو (حزيران) 1996 باتجاه الدعوة الى شرق اوسط خال من اسلحة الدمار الشامل وفي مقدمتها السلاح النووي، مع مطالبة المجتمع الدولي بالضغط على اسرائيل للتوقيع على معاهدة حظر الانتشار النووي. والواقع ان الموقف العربي الراهن هو في جوهره الموقف المصري الذي امتنع من البداية عن مجاراة اسرائيل في المنافسة في الميدان النووي، كما توضح من خلال توقيع مصر على التمديد غير المحدد على المعاهدة سنة 1995، والذي اعقبته في ابريل (نيسان) 1996 استضافة القاهرة لاجتماع افريقي موسع تم الاعلان فيه عن التزام الدول الافريقية، بما فيها مصر، بالمحافظة على القارة السوداء خالية من السلاح النووي. وقد تجسد موقف المجموعة العربية في اجتماع نيويورك لمراجعة معاهدة حظر الأسلحة النووية الذي عقد في ابريل عام 2000، عندما حاول العرب حشد ما أمكن من دول العالم للضغط على اسرائيل للتوقيع على المعاهدة واعتبار عدم توقيعها عليها السبب الجوهري ليس فقط في تشجيع انتشار هذه الاسلحة النووية في المنطقة بل ايضاً وسائر انواع اسلحة الدمار الشامل. لكن في ذات الوقت يبقى السؤال، في ظل تعنت اسرائيل وعدم خضوعها للاتفاقات الدولية في هذا المجال، في ما ان كان من الأفضل ترك الخيارات العربية مفتوحة أمام العرب وعدم الالتزام دولياً بما يوحي لإسرئيل بالتسليم بالأمر الواقع واخراجها من دائرة الضوء والتنديد والضغط العالمي عليها.

* خدمة «كمبريدج بوك ريفيوز» ـ خاص بـ«الشرق الأوسط»

* أوراق ندوة

* (مركز دراسات الوحدة العربية ـ بيروت) 2001، 544 صفحة