العولمة خرافة قسمت العالم إلى شطرين

من هي مجموعة (السحالى) التي تجتمع سرا للسيطرة على العالم؟

TT

مع تراكم المقالات والبحوث النظرية عن (العولمة) التي بدأت منذ نهاية الستينات، يكاد العالم ينقسم الى شطرين، مؤيد في غاية الحماس يدعو الى أو يأمل في تمركز مالي ضمن شركات عابرة للقارات ينهي الحروب والمواجهات الخطيرة بتذويب الاقتصادات القومية، والثقافات القومية، والحدود القومية داخل صيرورات عالمية جديدة، ومعارض يحذر من عواقب تهدد الكيانات السياسية للدول القومية بالشلل، وتضع المجتمعات، الكبيرة والصغيرة، تحت رحمة عدد قليل من الشركات العملاقة، تحوّل الفرد الى أداة مقننة داخل تجمعات بشرية استهلاكية قبل أي شيء آخر، مما ينتج عنه ثقافة عالمية ذات بعد واحد، تُوظَف للاستجابة لدينامية السوق وقوى المال الجامحة.

في هذا الكتاب الذي صدر حديثاً عن المجلس الوطني للثقافة والآداب في الكويت، يسمي المؤلفان بول هيرست وجراهام طومبسون (العولمة) بخرافة العصر، لكنهما يحذران في نفس الوقت من استغلال الشركات الكبرى للكتابات والبحوث النظرية عن العولمة لبناء نفوذ مالي من أجل التدخل في شؤون الدول القومية ضد مصالح ورفاه شعوبها النسبي.

مؤلفا الكتاب الانكليزيان من الأسماء المعروفة في مجال البحث النظري، وبول هيرست مختص بالنظرية الاجتماعية، ومتابع ذكي لمسار الديمقراطية في دول أوروبا وأميركا، حظرتُ له قبل أسابيع محاضرة ممتازة في قسم الدراسات الشرقية بجامعة لندن، عدّد فيها التجاوزات التي تقوم بها بعض الحكومات الأوربية للالتفاف على مبادئ الديمقراطية، لكنه متفائل كبير بامكانية تطبيق الديمقراطية في الدول النامية والمتخلفة، كمدخل لحلّ المشاكل الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي تعاني منها في الوقت الحاضر.

أما جراهام طومبسون، أستاذ الاقتصاد السياسي في الجامعة المفتوحة، فهو الآخر باحث اقتصادي ذائع الصيت، له مجموعة مهمة من المؤلفات، بينها كتاب يتناول فيه المنافسة الدولية والعولمة.

لهذا يشكل المؤلفان ثنائياً بارعاً في مناقشة نظرية (العولمة)، والردّ على الطروحات التي قامت عليها، وكشف المخاطر التي تترتب على ظهور أسواق ما فوق قومية بلا ضوابط، ودول قومية لا ارادة لها في الدفاع عن مصالح مجتمعاتها. يعتبر المؤلفان (العولمة) مجرد مفهوم حديث، أدى الى شل استراتيجيات الاصلاح الراديكالي على الصعيد القومي، باعتبارها استراتيجيات غير قابلة للتنفيذ بمواجهة ما تُنــزله بها الأسواق العالمية من حُكم وعقاب، وهما يعارضان الجموح الذي يتسم به مشروع العولمة، ويفرّغان محتواه من سند عملي يعزز اندفاعه، ويلخصان أسبابهما في ثلاث نقاط: (1) غياب نموذج مقبول عموماً عن الاقتصاد العالمي الجديد (2) نــزوع المتحمسين لهذا الاقتصاد الى الاستشهاد العابر بالأمثلة (3) الافتقار الى العمق التاريخي والنــزوع الى تصور بعض التغيرات الجارية بأنها فريدة، لا سابق لها من قبل، وراسخة لكي تستمر طويلاً في المستقبل.

ويسوق المؤلفان، في اسلوب يميل أحياناً الى السخرية، حججهما التاريخية المعززة بالارقام، من أن الاقتصاد العالمي الراهن هو أقل انفتاحاً وأقل تكاملاً مما كان عليه النظام الذي ساد الأعوام من (1870) الى عام (1914). مع ذلك، يقترح أنصار (العولمة) المضي في توسيع ليبرالية الاقتصاد العالمي، وأزالة الضوابط عن الاقتصادات المحلية. وكنتائج أولية، تمخضت هذه الدعوة عن آثار خطيرة في آسيا وفي أسواق المال الناشئة، أدت الى نشوب أزمة اقتصادية، وبطالة وافقار، الا أن الدعوة لعولمة الاقتصاد لم تمتْ، وهي برأي المؤلفين لا تزال قوية في البلدان المتطورة، لذلك يكرسان كتابهما الحالي لنقض ما يطلقان عليه «الخرافات» قبل أن تنــزل ضرراً فادحاً بالاستقرار الاجتماعي والاداء الاقتصادي على حدٍ سواء.

عام 1999 نشر الصحافي الانكليزي ديفيد آيك كتاباً سبب له الكثير من المتاعب، وأدى في النهاية الى فقدان عمله داخل بلده. والكتاب هو «السر الأعظم» الذي حذر فيه من نشاط سري، مقتصر على نخبة صغيرة من المتنفذين الكبار من جنسيات مختلفة، أطلق عليهم (السحالى) تسعى الى التحكم بالعالم من خلال السيطرة على المؤسسات المالية والانسانية والاعلامية في الغرب.

في ذلك الوقت استهان العديد من كتّاب الأعمدة الانكليز من (سحالى) ديفيد آيك، كونه لا يذكر شيئاً محدداً عن هذه المؤامرة الدولية الكبيرة، ولا أسماء الضالعين فيها، وهو بالتالي قائم على الوهم، والرهاب النفسي، غير أن حملة قوية، ومنظمة، شُنت على صاحب الكتاب في كندا وأميركا وعدد من دول أوربا، متهمةً اياه بالعداء للسامية، ثم تكشف أن المنظمة العالمية للصهيونية كانت وراء الحملة عندما ظهرت سكرتيرتها العامة بمكتب نيويورك في محطة التلفزيون البريطانية (القناة 4) تبرر حملتها بالقول ان ديفيد آيك لا يذكر اليهود في كتابه الذي يبلغ 517 صفحة، الاّ أن الجميع هكذا يبدأون «لا يذكرون اسم اليهود، لكنهم يعنونهم ضمنا في كتاباتهم».

لا أريد هنا الربط بين كتاب (السرّ الاكبر) وكتاب بول هيرست وجراهام طومبسون الذي أعرض له، لأن ديفيد آيك يلجأ الى تفسير ظواهر عامة لدعم حججه، تتماسك أحياناً وتتفكك عراها في أحيان أخرى، بينما يحكم مؤلفا (ما العولمة) منطقهما بتحليل علمي يستند الى جداول بيانية رسمية، ونتائج اقتصادية متفق دولياً على آثارها السلبية والايجابية، غير أن احكام السيطرة على العالم عبر قوة عسكرية كبيرة راودت الانسان منذ عصور قديمة، وفشلت مع الاسكندر المقدوني، ثم يوليوس قيصر، ونابليون، وأخيراً مع أدولف هتلر، ومن السذاجة ابعاد الفكرة ذاتها حين تظهر الآن من خلال أسلحة ودروع جديدة لم تُدشَن من قبل، أعني المال.

يُرجع المؤلفان الانكليزيان نشوء وتبلور مشروع عولمة النشاط الاقتصادي الى اضطرابات العامين 1972 و.1973 قبل هذه الفترة مرّ الاقتصاد العالمي (منذ 1945) بحقبة نمو طويلة، وعمالة تامة في البلدان المتقدمة، كانت مدعمة باستراتيجيات تدخلٍ نشيط للدول القومية، وادارة نظام تجارة وسياسة نقدية متعددة الأطراف تحت هيمنة الولايات المتحدة، انتهت بانهيار نظام بريتون وودز، وأزمتي نفط أوبك في العامين 73- 1979، اللتين رفعتا أسعار النفط بصورة كبيرة، ممّا ولّد اضطرابات وتقلبات سريعة في كل الاقتصادات الكبرى على امتداد عقد السبعينات حتى الثمانينات.

اضافة الى ارتفاع أسعار النفط، شكّل التورط الأميركي في فيتنام، والنمو السريع للتضخم عاملين اساسيين في خلق تلك الاضطرابات، مما دفع المؤسسات المالية والصناعيين الى البحث عن منافذ أوسع الى الاستثمارات والأسواق الاضافية، فكان الاقراض المصرفي للعالم الثالث في السبعينات المتميز بالتضخم، ونمو سوق اليورو دولار، وازدياد نسبة التجارة الخارجية. رافق ذلك تعجيل السياسات الحكومية لتدويل أسواق المال بالتخلي عن نواظم صرف العملات والغاء ضوابط أخرى عن السوق. وكان الميل باتجاه نــزع التصنيع في بريطانيا والولايات المتحدة قد عزز المخاوف من المنافسة اليابانية.

* الكتاب: ما العولمة (الاقتصاد العالمي وامكانات التحكم)

* المؤلفان: بول هيرست وجراهام طومبسون

* المترجم: فالح عبد الجبار

* الناشر: عالم المعرفة الكويتية