شخصية الأمير عبد الإله كما يراها سكرتيره الخاص

عطا عبد الوهاب يتحدث عن جوانب غير معروفة عن ولي عهد العراق السابق

TT

يصدر قريبا عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر ببيروت كتاب عن ولي العهد في العراق حتى ثورة يوليو (تموز) 1958، الامير عبد الاله، وفيه يسرد سكرتيره الخاص عطا عبد الوهاب جوانب من شخصية الامير، التي ربما تكون اكثر الشخصيات خلافية في تاريخ العراق المعاصر، ومواقفه تجاه احداث مهمة عرفها هذا البلد وهي مواقف تسجل لاول مرة.

وهنا مقتطفات من الفصل الذي يتحدث فيه المؤلف عن زيارتهم الى اسطنبول، ورغبة الامير بالتقاعد هناك، والى الصين الوطنية واليابان وما رافق ذلك من احداث تكشف عن صورة مخالفة لما عرف عن الامير عبد الاله.

غادرنا بطائرة الخطوط الجوية العراقية الى اسطنبول واتجهنا الى اليخت «عالية» الذي كان يرسو في البوسفور في منطقة «ببك» السياحية الجميلة.

أتاحت لي ظروف العمل هناك فرصا متعددة للتحدث مع الامير، خاصة حول شؤون عامة مختلفة، فكنت كلما أجد موضوع الحديث مناسبا اطرق جوهر الفكرة التي احملها بشكل عرضي اولا، تمهيدا لتهيئة الأجواء لها. وذات مساء كنا، الامير وأنا، على ظهر يخت آخر ارسلته الحكومة التركية ليقلنا الى أحد قصور آل عثمان حيث يقيم بايار رئيس الجمهورية حفلة عشاء على شرف الملك. كان اليخت يمخر البوسفور في ضوء القمر لمسافة طويلة، والامير وانا لوحدنا نتحدث، فعرج في حديثه على ذكرياته مع بعض رؤساء الديوان الملكي السابقين. سألته: من منهم كان الافضل؟ فقال بلا تردد: رستم حيدر في عهد الملك فيصل الاول، ورشيد عالي الكيلاني في بداية وصايتي. ثم اضاف: وانا اقول هذا عن رشيد وبيني وبينه خلاف تاريخي. عندئذ اخذت اتساءل في حديثي عن الصفات التي ينبغي ان تتوفر في رئيس الديوان الامثل، والرجل يتناول هذا الموضوع بتبسيط وعمومية، حتى قلت: انا ارى ان اهم ما يجب ان يتحلى به رئيس الديوان هو ان يكون ذا فكرة واضحة عن كيفية تطبيق الدستور على النحو الامثل، وان يضع ذلك بين يدي الملك بصفته مستشاره الاول. وحدث أن جاء الى أسطنبول الدكتور محمد فاضل الجمالي رئيس الوزراء الأسبق، وهو من المقربين للملك والأمير، فزار اليخت واجتمع بهما، ثم تقرر أن يجتمع هو والأمير اجتماعاً خاصاً وطلب الأمير مني أن احضر وأدون ما يجري في الاجتماع دون ان ينوه لي عما سيبحث فيه. جرى اللقاء وكان موضوع البحث فيه هو النظر في مستقبل الأمير. وقد اكتشفت لأول مرة أن هذا الموضوع كان قد بحث سابقاً بين الأمير وبعض الساسة العراقيين، وأن من جملة الاقتراحات التي قدمت أن يتولى الأمير منصب سفير العراق في لندن، ولكنه فيما يظهر لم يكن يريد أن يزيح عمه الأمير زيد الذي كان محباً لذلك المنصب بالذات.

لذلك لم يكن الأمير متحمساً لهذا الحل، ولا راغباً في منصب سفير العراق في واشنطن. في ذلك الاجتماع مع الدكتور الجمالي عرض هذا الأخير اقتراحاً جديداً يتلخص بإنشاء منظمة للشباب يتولى عبد الإله رئاستها، وفصل فكرة هذه المنظمة وتكوينها ومجال عملها. وعرض الأمير اقتراحاً آخر، وكان أميل اليه من اقتراح الجمالي، بأن يستحدث منصب جديد باسم «مفتش الجيش»، وقال الأمير انه اذا قرر البقاء في بغداد فإن مثل هذا العمل هو أقرب الأعمال الى قلبه، لأنه يحب الجيش وتربطه صلات وثيقة بأبرز رجاله، وقد ساهم في بنائه ويريد أن يستمر في الاشراف على تطويره وتسليحه واعلاء شأنه. استغرق ذلك الاجتماع ساعات خصصت لتقليب وجهات النظر المختلفة، على أن يعقد اجتماع آخر موسع في وقت لاحق. ولم يعقد مثل هذا الاجتماع.

كان الأمير يتحدث معي بين حين وآخر عما يريده من مستقبله. وكان يقول انه ربى جلالة الملك لمدة أربع عشرة سنة تربية حسنة الى أن تولى العرش، وأنه يساعده في تحمل مسؤولياته الى أن يتم له الإلمام بجميع الأمور بشكل واسع، وانه ينوي أن يتقاعد ويغادر العراق. ولم يكن متحمساً لأي من الاقتراحات المعروضة، وكان يقول انه يريد ان يستقر في اسطنبول دون أن يتولى منصباً رسمياً. كان محباً لطراز الحياة التركية، ويجيد اللغة التركية اجادة تامة باللهجة الاسطنبولية، ويعشق الغناء التركي بكل جوارحه، وظهر لي انه كان في السنين الاخيرة يبحث عن قصر هناك كان يعود لجده الشريف حسين شريف مكة وسكنه عند اقامته في تركيا ثم انتقلت ملكيته الى آخرين. وقد عثر على ورثة القصر الجدد، وكان يتفاوض معهم على شرائه، واصطحبني ذات مرة الى ذلك القصر المهجور، المهدم، ويقع على رابية تطل على البوسفور في «ببك» وهي بقعة خضراء جميلة بعيدة عن ضوضاء العمران. تجولنا بأرجاء ذلك المكان الذي بدا لي مسكونا بأشباح الماضي، رغم جمال الطبيعة الذي يحيطه من كل جانب. كان الأمير يتجول فيه ويقول: سأرممه واعيده الى ما كان عليه ايام جدي، وانتقل اليه مع اسرتي. وكان جاداً فيما يقول.

عدنا الى بغداد وقد اتاحت لي تلك الرحلة مجالاً واسعاً للتعرف على شخصية الملك وشخصية الأمير بشكل لا مواربة فيه. كان الملك في تلك الرحلة منصرفا الى رياضته اليومية في السباحة والتزلج على الماء. لعله كان الوحيد الذي يقضي اوقاته قضاء شخص متحضر يمضي اجازته السنوية.

عدت وقد رسخ انطباعي عن الملك: فتى مهذب، مثقف، واسع الاطلاع، حاد الذكاء، سريع النكتة، عفّ اللسان، ملم بشؤون البلاد ولا سيما في حقل الاعمار، رقيق الحاشية، مفتوح الذهن ويرحب بالمناقشة دون أن يشعر احداً بكبر أو تجبر او سطوة أو تعال، ويفرض احترامه على الجميع ببساطة وتواضع وبدون قصد أو جهد. كان يبدو لي على أمثل ما يمكن ان يكون عليه الملك الدستوري في العصر الحديث اذا توفرت من حوله الظروف الاخرى اللازمة لقيام وضع دستوري سليم تكون السيادة فيه للقانون. وعدت وقد تبلور انطباعي عن الأمير: رجل عجمت عوده الاحداث، ذكي ذكاء البداوة الخارق وقد صقلته مدنية الحياة العصرية، محب للخدمة، مرهف الحواس، خبير بأوزان الناس، مشجع للرأي المخالف النزيه وقد يأخذ به اذا اقتنع، ويحس انه أدى الأمانة على احسن وجه وأنه يشرف على نهاية الشوط. كان هذا الاحساس بنظري هو الذي يفسر لي ما كان ينطوي عليه من غم يحيطه بما يشبه السوداوية ويرغمه على نوع من الانطواء. وقد لمست فيه أن أشد ما يحز في قلبه ما يذكره بالنكران لخدماته العامة وما يبلغه من اشاعات كاذبة تلوكها الألسن عنه. لم يمض على رجوعنا الى بغداد سوى زهاء الشهرين حتى اخبرني الأمير أنه سيترأس وفداً يقوم في الخريف بزيارة رسمية لكل من الصين الوطنية واليابان. قال: ستكون أنت معنا، وكذلك احمد مختار.

توقفنا في طريق العودة في هونغ كونغ كما هو مقرر لقضاء ثلاثة أيام في تلك المدينة الصاخبة للاستراحة. آويت الى الفراش. واذ انا بين النوم واليقظة سمعت طرقاً عشوائياً على باب حجرتي، ثم اذا بأحد المرافقين يداهمها وهو يصيح: انهض، انهض، اجمع اغراضك. فظننت في الوهلة الأولى أنني في حلم يتطور الى كابوس. لكن لا. انه الواقع بعينه فالهرج والمرج يملأ ذلك القصر المهيب. سألت احدهم: ما الخبر؟ قال قرر سمو الأمير ان نغادر هذا المكان فورا. اجمع اغراضك. فذهبت من فوري، بالبيجاما، الى جناح الأمير، ووجدته لوحده فارع القامة، وسيم الطلعة، تزهو به أوسمته، ويحتقن وجهه، وتلتمع في عينيه الدموع، كأنه رمز منحوت لحزن خرافي ينبض بالتمرد. وقبل ان اسأله قال: تصور، أنا حفيد الحسين، يأخذونني الى هناك ولا يقولون لي إن اليهود من بين الحاضرين. وخنقته العبرات. فدخل علينا احمد مختار. فقال للأمير يحاول التخفيف عليه من الصدمة: يا سيدي هؤلاء اليهود من العراقيين وقد هاجروا الى هنا لا الى اسرائيل، وقد جاءك صاحب الدعوة بالكاميرات واحرق الافلام امامك. يا سيدي، استر علينا من الفضيحة. فصاح الأمير: الفضيحة؟ أنت تقول هذا يا مختار؟ أية فضيحة؟ أنا لا اخشى من الدعاية. ولكن الجرح عميق في قلبي. نحن من سلالة الرسول، ونعامل هكذا؟ نخرج من هذا البيت الآن.