قوة الكلمات

فاضل السلطاني

TT

ضاعت أصوات الروائي البرتغالي خوزيه ساراماغو، والنيجيري وول سوينكا (الحائزين جائزة نوبل للآداب)، والاسباني غويتيسولو والاميركي راسل بانكس وغيرهم، اعضاء وفد الاتحاد العالمي للكتاب الذي زار فلسطين، ورأى بأم العين ما يحدث هناك، لأن أصوات الكلمات لا يمكن ان تكون اعلى من اصوات الرصاص؟

وفي اميركا، ضاعت اصوات الفيلسوف مايكل والتزر، وعالم اللغويات نعوم تشومسكي، والمؤرخ هاورد زين، والكاتب غور فيدال، الذين وصفوا السياسة الخارجية الاميركية باللااخلاقية، فصوت العقل يتوارى حين يتقدم الجنون.

قد تضيع ولكن الى حين، كما حصل سابقا عبر التاريخ، وسط حماقات البشر وحروب الابادة ثم عادت لتشكل ضمير العالم الذي نعيش، والذي يدخل بدوره في حالة سبات بين فترة واخرى، كما الآن، لكنه باق ولا يمكن ان يموت. فهو من صنع عذابات البشرية جمعاء التي كان سيطويها العدو اللدود، النسيان، لولا وجود كتاب مثل ساراموغو وسوينكا وغويتيسولو عبر التاريخ. هذا التاريخ الذي نسي جنرالات الحرب الفرنسية ـ الروسية، وابقى لنا رواية «الحرب والسلم»، ولفظ من ذاكرته فرانكو، وحفظ لنا «الامل» لأندريه مالرو.

يخاف الطغاة والجنرالات والسياسيون من الكلمات لانها تستطيع ان تقتلهم الى الابد، فهي باقية وهم زائلون، وهي تجدد نفسها مع كل قارئ جديد.

وهي بذلك تكشف عريهم مرة بعد اخرى الى أبد الآبدين.

لقد اضحكنا غابرييل غارسيا ماركيز على الديكتاتور، اي ديكتاتور، في روايته «خريف البطريارك» وهو لا يستحق غير الضحك، وحول شارلي شابلن شخصية هتلر الى مجرد كاريكاتير في فيلمه «الدكتاتور العظيم»، وكشف لنا فارجاس لوسا في «حفلة التيس» عن الوجه البائس لديكتاتور معاصر. وهو ما سيبقى في ذاكرة التاريخ من هؤلاء الطغاة.

لكننا، للاسف، ننسى احيانا قوة الكلمة فنصمت، فيتحول هذا الصمت، الى ما يشبه التواطؤ. صمتنا عن كوارث كثيرة، عجزا او خوفا او يأسا. ولم نسجل للناس والتاريخ ما كان يجب ان نسجله، فضاع منا الشيء الكثير. من سيسجل ما حدث في «جنين»، وقبلها في صبرا وشاتيلا، ودير ياسين، وكفر قاسم، هذا اذا لم نذكر المجازر الداخلية ـ الداخلية؟

لا نتحدث هنا عن التقارير الصحافية والوثائق التي سرعان ما ينساها الناس، كما نسوا من قبل، وانما عن الكتابة الابداعية التي ترتفع بها لتحولها الى قيمة باقية تتجاوز الزمان والمكان، دون ان تفقد واقعيتها المهولة.

لقد انتجت الامم الاخرى، وما تزال تنتج، آلاف الكتب عن مآسي الماضي التي مرت بها حتى قبل قرون، سواء أكانت كتبا تاريخية ام ادبية.

وفي السنوات الثلاث الاخيرة، على سبيل المثال، ظهر في بريطانيا اكثر من كتاب عن الحرب العالمية الاولى برؤى جديدة، اضافة الى روايات استلهمت احداثا في القرنين السابع عشر والثامن عشر. وبالمقارنة، وهي ربما لا تجوز، نجد اننا لسنا مهددين فقط بنسيان ماضينا، وانما حقيقتنا الجوهرية المهددة بالضياع. قليلة هي الكتب العربية التاريخية التي سجلت اهوالنا حتى في ماضينا القريب ابتداء من الحرب العالمية الاولى، ومآسي الاحتلالات الاجنبية، مرورا بنكبة 48، وحرب يونيو (حزيران) وربما بلا انتهاء. واقل منها بكثير الكتب الابداعية التي استلهمت تراجيديا شعوبنا المغلوبة وحولتها الى قيمة فنية وجمالية تشكل وجداننا وتعيد صياغة نظرتنا الى الماضي والمستقبل ايضا، ونظرة الآخرين الينا. كل شيء سيضيع في مجرى التاريخ اذا لم تأسره الكلمات.