نيبول صحافيا وروائيا: عقدة متضخمة وشعور بالدونية تجاه الغرب

أمير طاهري

TT

ماذا يحدث عندما يجرب الروائي قلمه في الصحافة؟ غالبا تكون الاجابة محبطة كما في حالة كتاب «خلف العقيدة» لفي إس نيبول ولكن العكس صحيح فبعض الصحافيين عندما يحاولون كتابة تخيلاتهم فهم يقدمون اعمالا متوسطة المستوى والمسألة ليست صعبة على الهضم، فكتابة التخيلات هي عملية مبنية على التخيل لكن الصحافة هي مهنة ملاحظة الحقائق وكتاباتها، والروائي يخلق شخصياته ويحركها عبر احداث موضوعة، لكن الصحافي لا يمتلك اي سلطة على الشخصيات التي يكتب عنها ولا على طبيعتها او اقدارها او عن اي احداث قد تقع. ولأن الكلمات هي لغة مشتركة بين الصحافي والروائي فغالبا ما يتأثر الاثنان ببعضهما بعضا وعدد كبير من الصحافيين يحلمون بتقديم رواية عظيمة لا يكتبونها ابدا بالطبع، وعدد من الروائيين يخدعهم الظهور السهل للمقالات في الصحافة ثم لا يقاومون طبيعة الكتابة الصحافية ويبدأون في تغطية الاحداث المهمة، فالروائي الاميركي آرنست همنجواي جرب الكتابة التخيلية والصحافية ولكنه نادرا ما ابدع في ايهما، واندريه جيد الذي كان واحدا من اشهر الروائيين الفرنسيين خلال القرن العشرين كانت له تجربة صحافية تجول فيها في الاتحاد السوفياتي في الثلاثينيات وكتب عدة تحقيقات جعلته يحصل على لقب ثاني احسن مراسل، لكنه كان يرى كل شيء من حوله إلا الأشياء المهمة، وأما مواطنه اندريه مارلو فقد كان واحدا من اهم الادباء الذين انجبتهم فرنسا ولكن لأنه كان يمزج الادب بالسياسة والصحافة فقد خانها جميعا.

في بعض الاحيان يتمكن الروائي من تقديم اعمال تقترب من الكتابات الصحافية الجيدة كما في حالة الاسكتشات او المسودات التي كتبها سندال عن رحلاته في ايطاليا، وهناك ايضا مراسلون يتمكنون من الكتابة بطريقة تخيلية مكثفة دون الخلل بالحقائق، كما في حالة كتاب جون ريد «عشرة ايام هزت العالم» عن الانقلاب البلشفي في بتروجراد عام 1917 ولكن كل هذه استثناءات وتبقى الصحافة والرواية عملين مختلفان تماما.

والآن دعونا نعد لنيبول الذي حصل على جائزة نوبل في الادب عام 2001، وهو مولود لاسرة هندية في ترينيداد في الكاريبي عام 1932 وحصل على لقب «سير» من ملكة انجلترا منذ سنوات قليلة، ويعيش بانجلترا منذ حوالي 50 عاما ويكتب اعماله بالانجليزية. وقد نشر اول اعماله «المدلك المحترف» عام 1957 والتي تحولت في ما بعد لفيلم سينمائي، لكنه حقق اولى خطواته الحقيقية التي حققت له الشهرة من خلال روايته التالية «منزل للسيد بيسوس» ومن اعماله الشهيرة ايضا «في دولة حرة» و «لغز الوصول»، ويعيد نيبول، ربما بدون وعي، احياء كتابات تشارلز ديكنز في القرن التاسع عشر مثل «قصة مدينتين» و «أوقات صعبة»، وهذا من خلال تأثره الواضح بأسلوب ديكنز. فهو يميل دائما لخلق الشخصيات الكوميدية التي تستطيع كشف نقاط الضعف في الروح الانسانية، والشخصيات عندهما دائما عاشقة للبقاء ومهمومة به ومستعدة للكذب والخيانة وحتى القتل لتبقى مرفوعة الرأس.

* ديكنز وبلزاك

* يتشابه الحضور القوي للشخصيات عند ديكنز ونيبول مع الحضور المؤثر للشخصيات عند بلزاك، لكن ذلك التشابه ظاهري فقط، ففي الداخل هناك اختلافات كبيرة. فديكنز ونيبول لم يتطرقا ابدا ولم يجرآ على مناقشة الامور الاساسية وتأثيرها على السلوك الانساني، فقد يسخران وينتقدان الشخصيات لكنهما يحترمان التقاليد الاجتماعية. اما بلزاك فهو مدرك لتأثير العوامل الاجتماعية والاقتصادية والثقافية على السلوك الانساني. والسياق الاجتماعي عند ديكنز لا يتغير وليس له تأثير على الشخصيات الفردية بينما شخصيات بلزاك يوجد تفاعل بينها وبين المجتمع. ومن اروع شخصيات نيبول شخصيات الهنود الذين يعيشون تحت الحكم البريطاني في المستعمرات في افريقيا والكاريبي الذين يملكون دائما حيلا غريبة يستخدمونها من اجل البقاء. وهم دائما غير أمناء ومنافقون واحيانا خونة، ويبدون كمن يوجد لديهم شرخ اخلاقي يمنعهم من تحقيق الثقة بالذات التي يريدها الاسياد الاوروبيون. فقد تضحك حتى الدموع على احدى شخصيات نيبول الكوميدية، لكنك في النهاية تشعر بطعم المرارة في فمك. فهذه الشخصيات تعاني من الاحساس بالدونية والتعقيد لذلك تحاول ان تقنع نفسها بالتعالي على الشعوب التي تستعمرها وبخاصة بالنسبة للبريطانيين. وهكذا فنيبول يعبر عن امور اصبحت تاريخية ولم تعد موجودة، فقد اصبح اليوم هناك توازن في السلطات بين اوروبا وبقية دول العالم بحيث اصبحت السلطة في يد غير البيض. لكن الظروف المأساوية التي نقل فيها البريطانيون ملايين الهنود للعمل كعبيد في الاتجاهات الاربعة لم تظهر كما يجب في اعمال نيبول فهو لم يفهم ان الشخص الذي تمتد جذوره للبنغال لا يمكن ان يستقر في سيراليون.

شخصيات نيبول المحلية دائما كوميدية ومأساوية في نفس الوقت لأنها لا تعرف الطريقة التي تصبح بها غربية، وهي بذلك تتناقض مع شخصيات جوزيف كونراد الاوروبية التي عاشت في الظروف الاستعمارية وفقدت انسانيتها. فاحدى شخصيات كونراد وهي اللورد جيم مثلا تحولت الى النموذج المحلي للمستعمرة، وهي بذلك انتحرت ثقافيا. لكن شخصيات نيبول تحلم بأن تصبح اوروبية، غير انها تفتقد للشجاعة. في رواية كونراد «قلب الظلام» نرى الكابتن الاوروبي الذي يبحر بسفينة حربية في نهر الكونغو يمطر الساحل بوابل من القنابل بدون حتى ان يعرف على ماذا يطلق قنابله او لماذا؟ وهي صورة تكشف اكذوبة ان الهدف كان هو ادخال النور لقلب الظلمات الافريقية.

وكان كونراد يريد ان يقول للاوروبيين ابقوا بعيدا عن اراضي اولئك الناس وإلا قد تفقدون ارواحكم. لكن نيبول يريد ان يقول للغربيين انقذوا العالم كله بغزوه وان لم يكن ذلك بالمدفعية فليكن بالقيم العالمية، وكونراد لم يكن الوحيد الذي تعرض لتأثير الاستعمار على المستعمرات والمستعمرين، فروايات جراهام جرين «قلب الظلام» و«رحلة بدون خرائط» و«الاميركي الهادئ» كلها سارت في الاتجاه الذي يخاف منه نيبول.

ومن المفارقات الساخرة ان نيبول نفسه يعيش بشكل متناقض مع ادعاءاته الكاذبة فهو احد افضل كتاب النثر بالانجليزية الاحياء وهذا في حد ذاته دليل على ان ذوي الاصول الهندية يمكنهم تحقيق النجاح بدون اللجوء للألاعيب والخيانة وهو مدرك لعقدته واحساسه بالدونية، لذلك هو يحاول تحويلها الى تهويلات ادبية.

وقد بدأ ذلك بتأكيده ان هناك نظاما قيميا عالميا يتجاوز حدود العرق والثقافة والديانات. ولكن المشكلة هي ان يدعي ان الغرب، وبالذات الانجلواميركان، هم الذين يمسكون بهذا النظام العالمي، وبعبارة اخرى فهو يريد ان يقول انه اذا كان الانجلواميركان يتمتعون بحضارة عالية فذلك ليس لأنهم بيض، اي ان العلوية هنا ليست عرقية، ولكن لأن لديهم قيما عالية. وحتى التلفيقات التي يقوم بها نيبول وحشية جدا وصارخة، فهو يقول لنا للمرة تلو المرة ان ما يسمى بالدول النامية ما زالت تطفو على السطح بفضل التراث الذي تركته لها الدول التي استعمرتها، فالهند بقيت لأن بريطانيا تركت لها خدمات مدنية فعالة مثل السكك الحديدية وشبكات الطرق وبالطبع اللغة الانجليزية. وحتى ايران التي لم يستعمرها الغرب ابدا لم تغرق في بحر حماقاتها بفضل الاشياء الجيدة التي تعلمتها من احتكاكها مع الغرب. وفي العديد من كتب نيبول، الاشرار دائما من الشيوعيين واليساريين الذين حرضوا على الحرب الثالثة بعدائهم للغرب. وهو يريد ان تقع الحرب الثالثة بسرعة لمزاياها الطيبة وهي القضاء على الشيوعيين واليساريين الذين عادوا الغرب. ومع انهيار الشيوعية وتنامي المد الاسلامي في العديد من الدول الاسلامية وجد نيبول عدوا جديدا للجنس البشري هو الاسلام. ففي كتابه «بين المتدينين» المنشور منذ 18 عاما مضت زار نيبول عدة دول اسلامية غير عربية وحاول ان يثبت ان جميع مشاكل تلك الدول سببها الاسلام، ثم تلا ذلك كتابه «خلف العقيدة» وكتب فيه عن زيارات قام بها مؤخرا لدول اسلامية اخرى مثل ايران وباكستان واندونيسيا وماليزيا.

* «الإسلام والعنف»

* وفي ذلك الكتاب حاول نيبول اثبات نظريته التي تدعي ان الاسلام لا يولد إلا التعاسة والاحباط والعنف واضاف زاوية جديدة فهو الآن يقول ان الآثار الشنيعة للاسلام سببها انه دين المنطقة العربية، فالعرب بالنسبة لنيبول مهيأون وراثيا لتحويل اي مكان يسكنونه الى صحراء قاحلة، ولذلك فهم يبيدون اي ثقافة تعترض طريقهم. وايران مثلا كان لديها حضارة عظيمة قبل وصول الاسلام اليها وكذلك باكستان التي كانت يوما ما جزءا من الحضارة الهندية وكذلك ماليزيا والارخبيل الاندونيسي فقد فقد كلاهما ثقافتهما الآسيوية، والحضارة الهندية والصينية مهددة غالبا بالمد الاسلامي، فهو يقول في كتابه «من بين كل انواع الامبريالية العرب كان لهم التأثير الاخير والمدمر».

ويفسر نيبول الفقر والتعاسة والعنف في المجتمعات التي زارها بطريقة واحدة فهو اختار ايران وباكستان وماليزيا واندونيسيا، وجميعها عانت عبر عقود من الزمان من المشكلات الاجتماعية والثقافية باستثناء ماليزيا التي استطاعت تحقيق نمو اقتصادي، وجميع الدول التي اختارها تعاني حاليا من الفقر اكثر من اي وقت سبق. والسؤال هنا عن درجات التأثر الكارثي التي لاحظها نيبول سواء في ما يخص الاسلام او بما اسماه المرض العربي. لقد قابل خلال زياراته عددا قليلا من الاشخاص واغلبهم متأثرون بخلفيات اجنبية خارجية. فالاشخاص الذين ركز عليهم في ايران كانوا من الشيعة الهنود، وفي باكستان ركز على حاكم متمرد حكم من قبل امارة بعيدة شمال البنجاب تحت الحماية البريطانية وهي اندونيسيا، وانصب تركيزه هنا على عبد الرحمن واحد الصوفي الذي اصبح رئيسا قبل ان يطاح به في تهم فساد ورشوة. وفي ماليزيا يعرفنا على سمسار مخنث في البورصة، وبقية نماذجه الاخرى مشابهة مثل الملا صادق خلخالي الذي اعدم 1000 شخص خلال الثورة الخمينية والباكستاني الماركسي الذي حول قبيلة بلوتش الى بؤرة للبروليتاريا، وصاحب منجم الفحم البنجابي الذي يعمل صحافيا بالقطعة ثم المصلح الاندونيسي الذي يستغل الاسلام للحصول على الاموال وكذلك رجل الشرطة الماليزي.

وشخصيات نيبول التي نقابلها في اعماله ذات بعد احادي وطابع كوميدي اشبه بالكارتون وليس من بينها ما يمكن اعتباره المواطن المثالي بالنسبة لمجتمعه او حتى طبقته الاجتماعية او تخصصه. وهي دائما شخصيات مشوقة لكن ليست لديها بصيرة ولا يمكنك ان تجد لها نماذج في الواقع حتى في المجتمع البريطاني الذي يعشقه نيبول.

وهو يسخر من شخصياته لانها نسيت جذورها وتبنت الاسماء العربية والاسلامية او ما اطلق عليه «الاذلال العميق»: لكن نفس الشيء لا ينطبق على المسيحيين الاميركيين والاوروبيين الذين يتحدث عنهم نيبول باعجاب، فبعضهم يحمل اسماء يهودية مثل ملكة بريطانيا اليزابيث فهو اسم يهودي، وهو ينسى ان تلك الدول التي اختارها للبحث لم تتحول للاسلام بسبب الفتح الاسلامي لكن بعد قرون طويلة من الدعوة، والعرب لم يجبروا احدا في ايران على دخول الاسلام لأن غير المسلمين مطلوب منهم دفع جزية وهو ما كان يضمن دخلا ثابتا للدولة الاسلامية. وأكدت الابحاث التاريخية ان الايرانيين اعتنقوا الاسلام بعد اعتناق الاسرة المالكة له عقب خروج العرب، وتجربة شبه القارة الهندية شبيهة للتجربة الايرانية، وكذلك الترك والمغول لم يتعرضوا ابدا للغزو الاسلامي بطريقة منتظمة، بل ان التحول الحقيقي للاسلام من جانب الهنود كان خلال حكم الراجا البريطاني.

والشيء نفسه يصح على ماليزيا واندونيسيا فلم تتعرضا ابدا لغزو اسلامي لكنهما اعتنقتا الاسلام عن طريق التجار المسلمين والمبشرين والصوفيين. وبكلمة اخرى، لم يفرض الاسلام عقيدته بالطريقة المسلحة قط، بينما نجد ان القارة الاميركية، مثلا، اعتنقت المسيحية بقوة السلاح. لكن نيبول يتأسف على الباكستانيين الذين منعوا عاداتهم الهندية رغم انهم هنود بالعرق. وما لا يعلمه نيبول ان الهندوسية دخلت شبه القارة الهندية بالغزو عبر الغزاة الآريين الذين اجبروا السكان المحليين على اعتناقها. ولكن الفرق هو ان ذلك حدث قبل 1500 سنة من ظهور الاسلام. وحتى البوذية التي يفترض انها ديانة غير تبشيرية، لكن انتشارها يعود لجيوش الامبراطور آشوقا الغازية. ولو كان مطلوبا من العالم كله ان يحافظ على جذوره لاصبحت اوروبا الآن تعبد الآلهة الاولمبية. وعلى كل حال الصينيون واليابانيون ينظرون الى البوذية على انها ديانة هندية دخيلة.

* مغالطات تاريخية

* يتجاهل نيبول الذي يرى الاسلام على انه مجرد تدخل عربي يتجاهل الحقائق التاريخية، فالاسلام ليس فقط ديانة لكنه ثقافة ايضا وحضارة وطريقة حياة تعتنقها دول عديدة عبر قرون طويلة. لكن توجيه النقد للاسلام كمشكلة دينية اصبح هو الشغل الشاغل للكتاب والمراقبين. انهم يعتبرون الاسلام «منطقة الظلام»، او على الاقل يعتبرونه الدين الاقل تحررا عن اي دين آخر، مما يجعل الانسان المؤمن به خارج النظام العالمي، ليصلوا في النهاية لنتيجة مؤداها ان الاسلام هو المسؤول عن مشاكل العالم وتعاسته، غير ان هذا، في الحقيقة، صراع سياسي وليس دينيا. ولكن هناك اوقاتا احرق فيها الفلاسفة احياء باسم المسيحية واليوم فإن أسوأ انواع السلوك البشري تقدم وتفسر على انها نوع من التسامح المسيحي.

والفكرة الآن هي ان الايمان سواء كان سيئا او جيدا هو مسألة تخص صاحبها. لكن المشلكة اليوم هي ان اغلب المسلمين وخاصة الصفوة الحاكمة يتم التعرض لها بطريقة سيئة، والسؤال هو: لماذا؟ لكن كراهية نيبول للاسلام والعرب أعمته حتى عن طرح هذا السؤال.