علماء الجينات يلجأون إلى الفلاسفة

كتاب لناهدة البقصمي يقلب صفحة الأخلاق على مواضيع تمس حياتنا ومستقبل البشرية

TT

هذا كتاب، صدر في سلسلة «عالم المعرفة» الكويتية بحوالي «275» صفحة، وهو من تأليف ناهدة البقصمي وتقديم د. مختار الظواهري.

في البداية، يجب أن أعترف بأني اقتنيت الكتاب بسبب عنوانه، فلقد شدتني اليه البحوث الأخلاقية وعلم الأخلاق والفلسفة الأخلاقية منذ سنوات طويلة، وكنت في قراءاتي المتعددة، لكن ليس الكثيرة، أتابع بشغف وقلق محاولات علماء الأخلاق والفلاسفة وجهودهم لايجاد أسس أخلاقية ثابتة يمكن تطبيقها على البشر كافة في المجتمعات المختلفة وعبر العصور.

ومنذ ارسطو وافلاطون مرورا بتوماس هوبس وكانت وجون ستيوارت مل ودوكهايم وليفي بريل وبرجسون، كانت البحوث، عموما، تتركز حول ما يجب أن يفعله «الانسان/الفرد» للوصول الى الخير، ثم تشعبت هذه الجهود الى محاولة تعريف الخير والشر المطلقين وطبيعة الواجب.. الخ. ولم ينته أي باحث أو فيلسوف الى نتائج قطعية في هذا المجال الحساس، وغلب على الجميع الاعتراف بنسبية القيم الأخلاقية في المجتمعات والأزمان المختلفة، ففكرة القتل (الحرمان من نعمة الحياة) التي لا يمكن ان يجادل أي عاقل بكونها شريرة، كانت تمارس في بعض المجتمعات وبرضا من الجميع تأسيسا على اعتقاد بأن تقديم الضحايا والقرابين من البشر (الاطفال في مجتمع «المايا» في المكسيك مثلا) مرضاة لفكرة ميتافيزيقية مشكوك فيها، كان يحمي المجتمع من شرور كثيرة.

ليس بودي الآن ان أتوسع في تقديم أوجه بعض الممارسات البشرية المرعبة وكيف كانت تُقبل في مجتمعات معينة بسبب النظرة النسبية الى الأخلاق، والى فكرتي الخير والشر في العالم، لكني احب ان اشير الى كتاب لا اتذكر اسم مؤلفه مع الأسف عنوانه (أخلاق العالم)، اطلعت عليه في بداية الخمسينات مترجما الى العربية، سعى مؤلفه وهو عالم في الفيزياء، كما اتذكر، الى اقامة أسس أخلاقية تستند الى مقولات العلم من النزاهة والحياد في الاحكام والاخلاص. ولم ينته المؤلف الى اقامة أسس اخلاقية صلبة، كما يمكننا ان نتخيل، فقد اكتنف الغموض وسائله وتعريفاته ومقاصده النهائية.

بعد ذلك، ومنذ سنوات، تراجعت، ليس عن الاهتمام بالاخلاق الانسانية عموما ولا عن ايجاد مخرج مقبول لمطباتها الكثيرة، لكن عن قراءة المؤلفات التي تعيد بحث مواضيع مغلقة حاول ان يفتحها القدماء دون جدوى، حتى وقع تحت بصري كتاب ناهدة البقصمي عن (الهندسة الوراثية والأخلاق)، فأثار اهتمامي غاية الاثارة. إنه كتاب يقلب صفحة الأخلاق على مواضيع جديدة وخطيرة في آن واحد، تمس حياتنا الشخصية ومستقبل مجتمعاتنا البشرية. انه كتاب، كما يصفه د. الظواهري، «يأتي في وقت تتلاحق فيه الثورات العلمية والتكنولوجية وما لها من تطبيقات وانعكاسات على الحياة البشرية، الصالح منها والطالح، مما يثير الرعب والأمل معا».

ومن اجل ان اعطي فكرة عامة عن موضوع الكتاب سأورد عناوين بعض فصوله:

(تطور العلاقة بين الأخلاق والطب/ مشكلات فلسفية متعلقة بتكنولوجيا الحياة البشرية/ موقف الدين والفلسفة من تكنولوجيا الاخصاب الصناعي واطفال الانابيب/ موقف الدين والفلسفة من تجارب الهندسة الوراثية والاستنساخ الحيوي).

لم يكن العلم، في عصوره كافة، بعيدا عن الانسان، لكنه كان يعمل في حدود عزلته العلمية، رافضا ان يتدخل اي كان في شؤونه وفي اعاقة مسيرته التي اتخذت مبدأ خدمة البشرية هدفا أساسيا لها، ورغم العنت الذي لاقاه «كوبرنيكوس» و «كاليلو» وغيرهما، إلا ان اصرار العلماء بقي مستمرا وتغلب على كافة المعوقات، متابعا السير في طريقه. اما حين يتدخل العلم في عملية خلق البشر بطرائقه الخاصة خارج المسار الطبيعي، وحين تتم عملية اخصاب المرأة بسائل منوي من رجل آخر غير زوجها، او يتم الاخصاب في اناء خارج الرحم وتترك البويضة لتنمو فترة معينة، ثم يتم زرعها في رحم الانثى، او حين تقوم ثورة الهندسة الوراثية بتطبيق نظرياتها بالتحكم في الجينات والاستنساخ الحيوي واعادة تركيب الصفات الوراثية في الانسان. فإن المجتمعات البشرية لا تستطيع ان تلتزم الصمت وتترك الاطباء يعملون ما يشاؤون باسم العلم.

واللافت للنظر في هذا المجال، كما تذكر المؤلفة، ان المسؤولين عن ادارة شؤون البشر تذكروا الفلاسفة في هذه الاوقات الحرجة ولجأوا اليهم لتقديم هذه المشاكل ذات الابعاد المفزعة وايجاد حلول لها.

ففي يونيو (حزيران) سنة (1978) ولدت في انجلترا اول طفلة انابيب في العالم فكانت هذه الحادثة العلمية محفزا لاثارة مشكلات اخلاقية واجتماعية ودينية وقانونية، مما اضطر الحكومة البريطانية الى تشكيل لجنة في سنة (1982) برئاسة احدى المشتغلات بالفلسفة وهي (ماري ورنك) لدراسة المشاكل المرتبطة بالاخصاب الصناعي واطفال الانابيب والاستنساخ الحيوي من الناحية الاخلاقية، وتضيف الاستاذة البقصمي ان اسناد الحكومة البريطانية رئاسة اللجنة الى فيلسوفة وليس الى طبيب او محام او لاهوتي انما يدل على اعتراف المجتمع بأن الفلاسفة اصبح لهم دور مهم وخطير في مجال حل قضايا المجتمع الشائكة بعد ان كان مجالهم يرتبط بالدراسات النظرية.

ان المشاكل الجديدة التي ثارت بسبب التقدم العلمي ونجاحات الاطباء في حقول كانت مغلقة من قبل، اوجب على علماء الاخلاق والفلاسفة ورجال الدين ان يعثروا على حلول اخلاقية جديدة هي ايضا، بحيث تلائم المجتمعات التي أخذت تتغير بسرعة تبعث على الدوار. فالاستاذ (هاريس)، كما تذكر المؤلفة، يقول معلقا على عملية الأم البديلة:

(اننا لا نملك سببا جوهريا لرفض العملية غير الافكار والقيم القديمة عن الاستغلال والدعارة وتجارة الرقيق التي تكمن خلف تفكيرنا واحكامنا الاخلاقية).

لقد عجز الاطباء، في بعض الاحيان، عن ايجاد حلول لمعضلات هي من صميم عملهم مثل.. متى يمكننا ان نعتبر ان الحياة قد بدأت لدى الانسان؟

قد يبدو هذا السؤال غير وارد، كما يقولون، لكن رفض عمليات الاجهاض او تبريرها. فرضت على الاطباء وعلماء القانون ان يحددوا متى يمكننا اعتبار الجنين انسانا ومتى يمكن ان نحرمه من نعمة الحياة دون ان نقارف جريمة قتل؟

لقد ذهب المفكرون والاخلاقيون والعلماء مذاهب شتى بشأن هذه القضية، تتراوح بين قدسية الحياة من جهة ومتى تستحق هذه الحياة احترامنا وهل يمكن ان نضع مقياس الوعي بالذات حدا لتمتع الكائن بانسانيته او ان نعتبر مقدرته على تحمل المسؤولية هي هذا الحد؟

تعلق البقصمي على هذا الموقف بقولها:

(ورغم انني لست ضد تحديد صفة او سمة ثابتة للكائن البشري يمكن من خلالها معرفة متى يصبح انسانا له حقوق اخلاقية. فإن المناقشة السابقة لتلك السمات .. قد تجعلنا نسلك سلوكا محددا تجاه الآخرين من خلال نظرتنا لهذه السمات.. فنحن، كما سبق القول، قد نواجه حالات لا يملك فيها الكائن البشري ادنى صفات الانسانية، ومع ذلك نحافظ عليه ونسعى الى الابقاء على حياته، فهل هي سمات معينة موجودة فيه، أم هي صفة شاملة عامة تشمل البشر كلهم، اعني اننا نحترمهم لأنهم بشر وليس لخصائص معينة موجودة فيهم). بعد ذلك، تنتقل المؤلفة لتبحث في رأي الفلسفة في تكنولوجيا الاخصاب الصناعي وعما اذا كانت هذه العملية اخلاقية ام لا، وما هو تأثيرها من ناحية الام او الوالدين، وما هي الآثار الاخلاقية والنفسية المترتبة على الطفل وعلاقته الانسانية بوالديه وما يدور حول هذه العملية من استغلال ومتاجرة. ثم نتناول عملية اطفال الانابيب وتأثير هذه العملية على الطفل الذي يرى البعض ان له الحق في معرفة أصله البيولوجي، وتختم بالقول:

«ان القضية الاساسية بالنسبة لعملية اطفال الانابيب، ليست المنع او الاستمرار وانما ما يمكن ان يوصلنا اليه مثل هذا التطور، والمشاكل المترتبة عليه في المستقبل، ولذلك فنحن بحاجة الى ان نجلس ونفكر في ما يمكن ان يحدث في المستقبل».

في الباب الخامس من الكتاب تتناول المؤلفة موقف الدين والفلسفة من الهندسة الوراثية والاستنساخ الحيوي، فتشرح موقف الاثنين من هاتين العمليتين الشائكتين وما يساور رجال الدين والفلاسفة من مخاوف وتخيلات مرعبة عن مستقبل الجنس البشري.

* الكتاب: الهندسة الوراثية والأخلاق

* المؤلفة: ناهدة البقصمي

* إصدار: «عالم المعرفة» الكويتية